ينساب الإحساس الجميل
بالغزال في نفوس عموم الناس، مع أن بعضهم- ومعظمهم- لم يروه رأي العين أصلا،
يتداخل في خفة حركة المحبوب واتساع عيونه واتساق خطوته- مع حناء تصبغ كعبه، ويتمرغ
في المواويل وألحان الفراق وشجن النوى...
كما أن الشعر العربي-
منذ بكوره غزلا- استعار الغزال ووضع في كل أجزائه وأنواعه من جميع الظباء: قلق
النهار وسهر الليالي. وعلماء الحيوان يجعلون الظبي أصلا للفصيلة والغزال فرعا، ثم
يردون المجموعة كلها إلى الفصيلة "البقرية" فيفسدون علينا كثيرا من
المسائل، تماما كما يردون السباع إلى فصيلة القط فيحيلون الشجاعة والبسالة إلى
مجرد مواء جائع ممطوط.
ونادرا ما يطلق الناس على مواليدهم
"ظبي "، ولا يوجد في الممالك سوى "أبوظبي " في الإمارات
العربية المتحدة، لكن الغزال ينتشر اسما لقبائل وأفراد، وكذلك "ريم "-
مولود الظبي- الذي استأثر- مع المها ومع الهيثم "وليد الصقر"- على كثير
من الأسماء الحديثة، ومع ذلك فقد حال عناد الشعر الحديث دون استفادته من كل هذه
الألقاب والأسماء، ربما لأن خطى الإيقاع الرباعي للغزال، ثم الخطوات المتزنة في
سيره الآمن، ثم القفزة الواسعة في الهرب خوفا كانت أصعب مما تتحمل مقاطع الشعر
الحديث المتناثرة، ولذا فإن أسرع وأجمل ماركات السيارات وعلامات علب الشيكولاته
وزجاجات المشروبات وأشكال مؤانسات الأطفال من دمى وألعاب تأتي على شكل الغزال
استقعد البيوت والأرائك والمهود "جمع مهد"، بعد أن ضاقت به الصحاري
والروابي فزعا من طلقات رصاص هواة صيده الجبابرة، إهلاكا للوقت وطلبا للهو، ثم:
واستمتاعا بلحمه الجميل الخفيف الخالي من الدهون، والذي يمكن لك أن تترك الغزال في
بيدائه لتستعيض عن لحمه بزوجين من الأرانب مع طبيخ الملوخية، في حين يتوقف هواة
لحم الغزال عند الشواء فقط. والغزال يستوطن في أعداده القليلة الباقية: إفريقيا
وآسيا، ومساحة في برامج الاهتمام بعالم الحيوان في السينما والتلفزيون، وبدايات
تلقين الأطفال شيئا من الفنون التشكيلية، في كراسات الرسم.
غير أن ثمة "غزالة" ذات شهرة في
الشجاعة والفروسية تنام في بطون التاريخ، وتقترب منها فنون الدراما الحديثة
"والتي لم تترك حادثا ذا شأن دون تمثيله حتى الآن فيما أعتقد"، وهي
غزالة زوجة شبيب الشيباني، خرجت مع زوجها على الخليفة عبدالملك بن مروان، لتواجه
القائد العتيد العنيد الجبار الحجاج ابن يوسف الثقفي، الذي فر أمامها وتحصّن منها،
فعيره الشاعر عمران الخارجي بقوله: أسدٌ عليّ وفي الحروب نعامة- و- هلا برزت إلى
غزالة في الوغى، وقد أوقع بها وقتلها خالد الرياحي في معركة على أبواب الكوفة،
وبعدها غرق زوجها، كما أن الغزال يحتاز نهرا في جنوب السودان، وواحة صغيرة في جنوب
غرب مصر، وثمة غزال كان فنانا تشكيليا وخزافا في العصر المملوكي المصري
"القرن 15 "، وله قطع متعددة بمتحف الفن الإسلامي بالقاهرة، وقبله يحيى
الغزال شاعر وسياسي أندلسي في القرن التاسع، ثم الغزالي- أبو حامد أشهر فقيه
ومتكلم وفيلسوف وصوفي ومصلح ديني اجتماعي، وقد عاش في القرن الحادي عشر الميلادي،
والذي يمتد بمدرسته عبر القرون ليصل إلى الشيخ محمد الغزالي: الخطيب والإمام والمتحدث
والمفسر المصري المعروف في العصر الحديث.. وربما يكون الغزل- أي فن التمهيد المبكر
لقيام علاقة دافئة بين الذكر والأنثى- يرجع لغويا وتكتيكيا إلى الغزال ذاته:
المبادىء والأسس والمناورة وشدة الحنو ومرونة الملاطفة، والقدرة على التجمل، دون
أن يتخلى عن المثابرة والعناد والإصرار الجميل لأنه حيوان جميل وجدير بأن نتعلم
منه دون أن نتخلى.
إرسال تعليق