-->

أسرار هجرة الحيوانات والطيور دورية وانتحارية

إنها مخلوقات من النادر أن تستقر في وطنها فهي دائمة الرحيل بحثا عن الدفء والغذاء. تسلك كل الطرق. وأحيانا تموت قبل أن تصل ، ولكنها لا بد أن تعود . وفي كلتا الرحلتين تحيط بها أسرار لم يستطع العلم الوصول إليها حتى الآن.

تعبر الكثير من الحيوانات والطيور نصف الكرة الأرضية ذهابا وعودة دون مساعدة من أجهزة ملاحية مثل البوصلة أو القمر الصناعي أو آلة السدسية ولكنها تتحرك في اتجاهاتها بإيحاء من ظواهر الكون الطبيعية حولها، مثل الشمس والنجوم والروائح ومعالم المكان ومجال الجذب المغناطيسي والموجات تحت السمعية.
ولكن لماذا تهاجر الحيوانات؟ كيف تعرف الطيور والحيوانات أن موعد هجرتها قد حان؟ كيف تحدد المكان الذي سوف تهاجر إليه؟ وكيف تصل إليه؟ هل تهاجر من أجل ظروف عيشة أفضل؟ من الجو البارد إلى الجو الدافئ؟.
هل يتحدد توقيت الهجرة بناء على حالة الجو؟ اختلاف طول النهار! أو اختلاف درجة الحرارة؟! بالرغم من أنه معروف منذ أزمنة بعيدة أن الطيور تهاجر من الشمال إلى المناطق المدارية هربا من الشتاء القارس إلا أنه يبقى أيضا كيف تحدد الطيور طريقها من نصف الكرة الأرضية إلى النصف الآخر؟ فمثلا: طائر الخرشنة وهو كائن يشبه النورس يعيش بالقرب من الماء، يهاجر سنويا من الدائرة القطبية الشمالية حيث يتناسل إلى سواحل القارة المتجمدة الجنوبية.
وأسماك السلمون تفقس بيضها في منابع الأنهار ذات المياه العذبة، وتأخذ وقتا قبل أن تتحول وتصبح قادرة على الخروج إلى عرض البحر، حيث تنتشر في رحلات بحرية طويلة ومهلكة تتعرض فيها أعداد كبيرة للموت تعود إلى النهر الذي ولدت فيه مهما كانت المسافة بعيدة، كي تعيد دورة حياتها من جديد.. ولا أحد يعرف كيف اهتدت هذه الأسماك الضئيلة إلى موطنها الأصلي مرة أخرى؟! ولا كيف قاومت كل هذه التيارات البحرية؟! ومن الصعب القول إنها تهتدي بأشعة الشمس كما كان يقال قديما، فقد تبين أن هذه الأشعة تنحرف عن مسارها. ويبدو أن حاسة الشم لديها بالغة الحدة. فالمصب عندها يعني الرائحة وهي تتشبع بهذه الرائحة وهي مازالت بيضة راقدة. وقد أجريت عدة تجارب تم فيها إتلاف حاسة الشم عند أسماك السلمون ففقدت معرفتها للاتجاه. والمدهش أن أسماك السلمون تقوم بهذه الرحلة الطويلة دون أن تتناول أي نوع من الطعام. إن أجسادها تتوتر وتتوفز، من أجل هدف واحد هو التكاثر، لذا تنمو أعضاؤها الجنسية على حساب أجهزتها الهضمية وعندما تصل تضع بيضها ويتحول لونها الفضي الجميل إلى لون باهت ويأتي الموت، لقد أتمت رحلة التكاثر ودفعت حياتها ثمنا لبقاء النوع. ولقد توصل العلماء بعد طول بحث عبر قرون كثيرة إلى أنه يوجد ثلاث طرق للانتقال بالنسبة للطيور والحيوانات تحدد بها مساراتها:
أولا - الاستطلاع، وهو عبارة عن الانتقال أو القفز من منطقة أو علامة مألوفة إلى أخرى، وهو أمر عادي ولا يتطلب مهارة خاصة من الحيوان أو الطائر، ولا يخرج الأمر عن مجرد ممارسة يومية للحيوانات والطيور بحثا عن الطعام.
ثانياً - التوجيه وهي طريقة أكثر تعقيدا وذلك لأنها تعني التحرك باتجاه واحد وهذا يتطلب تحديد الاتجاه عند أي نقطة، بالإضافة إلى الميل والاستعداد الموروث لتفضيل جهة عن أخرى.
ثالثاً - الملاحة وهذه الطريقة تؤكد بشدة احتمال وجود قوة أو قوى مميزة في الحيوان أو الطائر حيث إنه يتضمن القدرة على إيجاد علاقة متناسقة بين موقفين أحدهما أبعد من الآخر ويحدد خط السير بينهما. وبالدراسات الكثيرة التي أجريت على الحمام الزاجل وجد أن انتقاله يتم على مرحلتين:
الأولى - غطت مسار عودة الحمام من نقطة الانطلاق إلى برج المسكن.
الثانية - تضمنت إعادة تحديد مكان البرج عندما يكون الطائر في منطقة مألوفة له، وقد توصلت كل الأبحاث التي أجريت على هجرة الطيور والحيوانات في أوربا وأمريكا إلى ذلك العمل الإعجازي والذي يحمل الكثير من قدرة الخالق وهو أن هناك دخلا لكل من الشمس، والنجوم، ومجال الجذب المغناطيسي للأرض، والرائحة، والصوت في تمام هذه الأعمال الخارقة والتي يقف الملاحون احتراما لها بكل ما لديهم من أجهزة حديثة للملاحة وأقمار اصطناعية.
أولاً - الشمس : نشر عالمان متخصصان في هذا المجال كل على حدة وهما العالم الإنجليزي كرامر والعالم الألماني كارل فون فريس أن طائر الزرزور ونحل العسل يستخدمان الشمس في الملاحة أثناء الطيران، وذلك على أساس حركة الشمس في السماء، حيث إن هذه الحركة - أي حركة الشمس - تكون مسار الحركة بزاوية ثابتة يأخذ شكل حرف U. ولاستخدام الشمس كبوصلة لا بد من تحديد نقطة ثابتة يمكن الرجوع إليها مثل موقع الشمس في منتصف النهار أو نقطة شروقها أو غروبها في الأفق. وقد ثبت منذ فترة أن مجموعة كبيرة من الحشرات وحتى القوارض تستخدم الشمس كبوصلة، وقد وجد أن نحل العسل يمكن توجيه حركته بالشكل السليم حتى في الأيام التي تكثر بها الغيوم. ويرجع ذلك إلى أن نحل العسل والحشرات تستخدم السطح لاستقطاب الضوء في تحديد موقع الشمس، وذلك لأن سطح الاستقطاب يعتمد على موقع الشمس في السماء، وعليه فأي حيوان أو طائر يمكنه أن يحدد ذلك الموقع بسهولة إذا تمكن من تحديد سطح الاستقطاب.
ثانياً - النجوم : ماذا عن الطيور المهاجرة التي تطير في الليل فقط، فهي لا تستطيع استخدام الشمس كبوصلة؟.
لقد تعلم الإنسان الملاحة أثناء الليل بالاعتماد على النجوم الثابتة التي تقع على محور دوران الأرض وهي التي تظهر في الموقع نفسه ليلة بعد أخرى. ولقد أثبتت الدراسات التي أجريت على استخدام الطيور للنجوم في الملاحة أنها خبرة مكتسبة وليست فطرية بناء على التجارب التي أجريت على عصفور الدرسة النيلي، حيث إن أفراد هذا النوع من العصافير تعلمت التركيز على مجموعة من النجوم كمرجع مهم وسط التجمعات النجمية الصغيرة فوق القطب.
ثالثاً - المجال المغناطيسي : أجرى بعض الباحثين في جامعة فرانكفورت تجارب على الطائر النساج وذلك على احتمال استخدامه المجال المغناطيسي لتوجيه مساراته، ولقد أجريت التجارب على أنواع مختلفة من الكائنات مثل الفراشة، النحل، الفئران، الطيور، وقد أثبتت هذه الأبحاث قدرة هذه الكائنات على استخدام المجال المغناطيسي للأرض لتحديد مساراتها الصحيحة. ولكن كيف تتمكن الحيوانات من كشف المجال المغناطيسي للأرض؟ إن ذلك ما زال سرا غامضا. فمثلا أسماك القرش يمكنها كشف المجال الكهربي، ولأن الحركة في المجال المغناطيسي تولد تيارا كهربائيا فهذه الحيوانات تكون قادرة على تحديد الاتجاه المغناطيسي باستخدام معلومات من المجال الكهربي. ولقد اكتشف بعض الباحثين في الجامعات الأمريكية وجود مادة مغناطيسية في بطن النحل ودماغ الحمام. وهناك رأي يقول إن الطيور عندما تنتقل إلى أماكن انطلاق مجهولة بالنسبة لها تستخدم تكتلات من ملاحة القصور الذاتي مستخدمة كل الإيحاءات لتظل على معرفة بكل الانعطافات أثناء انطلاقها، وهذا الذي يمكنها من العودة إلى برجها، ولقد استخدمت الرادارات العسكرية في تتبع الطريق الذي تسلكه الطيور لمحاولة معرفة طرقها في التعرف على هذا الطريق إلا أن ذلك لم يصل إلى شيء.
وقال بعض الباحثين إن الملاحة الحيوانية هي عملية نظرية متتابعة لبعض الإيحاءات مثل إبقاء الشمس على جانب واحد أثناء الطيران أو الطيران مع الرياح السائدة.
ويرى بعض الباحثين بجامعة مانشستر أن جميع رحلت الهجرة الطويلة ترد إلى الاستطلاع.
رابعاً - الرائحة: يمكن للحيوانات استخدام عناصر أخرى من مناطق وجودها غير تلك التي نراها ولقد أجريت تجارب كثيرة على أسماك السلمون أوضحت بشكل يكاد يكون قاطعا أن الخصائص الكيماوية للأنهار التي يعيش فيها هذا النوع من الأسماك وهي صغيرة قد انطبع فيها وبذلك لا تجد هذه الأسماك صعوبة في رحلة الهجرة للتعرف على مكان العودة. وقد قام بعض الباحثين في جامعة بيزا بإيطاليا ومجموعة أخرى في ألمانيا بإيجاد علاقة بين الشم (الرائحة) والاستطلاع، وقد وجد بالتجارب أن حاسة الشم ضرورية للعودة من مسافات بعيدة قد تصل إلى 700 كيلومتر، ولكن ماذا عن الروائح الكيماوية التي يحملها الهواء، وتقلبات الطقس المحلية؟ والرد يقول إن الرياح السائدة غالبا ما تكون ثابتة إلى الحد الذي يسمح بوجود تجمعات من الروائح تكون بمثابة موجهات تمكن الحمام من الطيران إلى موطنه.
خامساً - الصوت : اكتشف أخيرا أن مظاهر الجغرافيا الطبيعية من سلاسل الجبال والشعب المرجانية ذات خصائص موجهة مميزة حيث إنها تعطي إشاراتها الصوتية الخاصة، وهي ذات مدى ترددي صغير أقل من 10 هرتز أي أنها أصوات تحت سمعية بالنسبة للإنسان يمكن الإحساس بها من مسافات تصل إلى آلاف الكيلو مترات ويمكن للحيوانات الحساسة لهذه الترددات، تبعا لكثافة الإشارات التي تلتقطها واتباعها، إعادة تحديد موقع موطنها الأصلي. والطيور وبعض ثدييات الأرض تتمكن من الإحساس بالأصوات تحت السمعية وقد توصلت مجموعة من الباحثين في جامعة فرانكفورت إلى أنه من الممكن استخدام أكثر من وسيلة من الوسائل السابقة في تحديد المسار فطائر النساج وحمام المنازل يستخدمان المجال المغناطيسي في البداية ثم يستخدمان النجوم أو الشمس. كما توصلوا أيضا إلى أن نحل العسل يستخدم في حركته سطح استقطاب الضوء والمجال المغناطيسي والشمس ولقد توصل الباحثون بجامعة ولاية نيويورك إلى أن عصفور الدوري المهاجر ذا الرقبة البيضاء يستخدم الشمس في بداية المساء لهيئ مسار طيرانه في الليل حتى لو كان الجو غائما. ولقد استبعدت الأبحاث الكثيرة استجابة الحيوانات آليا للمؤثرات الخارجية فقط، لكن هناك تقويما للمعلومات المتحصل عليها من البيئة واتخاذ قرارات حاسمة. ولقد أثبتت التجارب التي أجريت في ميدان ملاحة الحيوان والطيور أنه لا يوجد حيوان يعتمد فقط على ميكانيكية واحدة في تحديد مساره، وأن الطبيعة ما زال لديها الكثير من المفاجآت التي لم تكشف عنها.