يكاد الأدب العربي -
(الشعر والقصة) - يخلو من هذا الحيوان الأليف الرشيق : الماعز، مع أنه استوطن
الحضارات الأولى، واستمتع بلحمه المشوي اللطيف الغزاة والمصلحون والسائحون وعشاق
السهر طالبو (النيفة)، و (النيفة) هي الاسم المصري لنوع من (الكباب) يجهز من لحوم
الجديان - وأشهاها ما كان مع الطحينة المتقنة - وعند تخليصه من الدهون فإن لحوم
الماعز تضارع لحوم الغزلان والظباء، لكنها - هذه اللحوم - إن وقعت في يد لا تجيد
الإعداد المناسب، فإنها تفقد كثيرا من طعمها الشهي.
وجميع أنواع الماعز تصبح
بالغة المرح والتقافز إذا ما كانت في قطيع، لكنها - حين تقع في دائرة الوحدة تمسي
ذليلة مسكينة، وحزينة أيضا، وكثيرا ما ينقطع فرد منها عن القطيع فيلجأ لقطيع آخر،
لكنه يظل مستكينا استكانة اللاجئين السياسيين، ثم - بعد تقييمه للموقف في ضوء
القطيع الغريب - تتوالى مأمآته العالية المقلقة، استغاثة أو إثبات وجود عالي الصوت
ليشابه المقالات والتصريحات الأولى لمن خرج على حزب أو جماعة وانضم إلى حزب مناوئ،
ثم لا يلبث أن يعود إلى استكانته.
وأشهر ماعز في التاريخ تلك التي صاحبت
غاندي زعيم الهند - وأكثر الزعماء بروزا في العصر الحديث - وكانت برفقته خلال
سنوات نضاله الطويل، ولم يرد في كتب الذين تناولوا حياة غاندي شيئا عن هذه العنز :
هل هي واحدة، أم أنها تعددت وتغيرت حسب تغير ظروف الزعيم، أو ظروف العنزة ذاتها؟
ثم عنز هانز كريستيان أندرسون الروائي الدانمركي الذي وضع للناشئة عددا مهولا من
قصص الغرائب والخرافات، حيث مارست العنز بطولة بعض منها، وعنز جحا - الذي اشتهر
بمرافقة الحمار أكثر- وعنز أحمد عبدالغفار وكان قرصانا نهريا يقطع الطريق على
السفن في مجرى نهر النيل بين المنيا وأسيوط عام 1946، وفشلت قوات الأمن في الوصول
إليه بسبب اختفائه بين أحراش وجبال الضفة الشرقية الشرسة للنهر، وذات مرة - عند
اجتياحه مركبا - وجد بها عنزا صغيرة تسمى في الصعيد (ربعية) أي تجاوزت الشهور
الأربعة، عندئذ قام - بعد سلب ما بالمركب من أشياء ثمينة وخفيفة - باصطحاب
(الربعية) إلى خدره، لكنه لم يستطع أن يتركها أو يذبحها أو يبيعها، لقد أشفق
عليها، وكان صوت الربعية هو الذي قاد قوات الأمن للوصول إليه، وقد كانت حكاية أحمد
عبدالغفار هذه تباع في صفحات قليلة مطبوعة بشكل بدائي، بعضها شعر وبعضها نثر-
وكلاهما من النوع غير الراقي، ولا أنسى بيت شعر فيها يقول ما معناه: لا بالنار ولا
بالحديد استطاعت الحكومة الوصول لخصمها، بل بسبب صوت الربعية، التي كان أحمد
عبدالغفار يحبها ويحميها.
غير هذه البطلات من الماعز، لا أجد أثرا
لها في كتاب الأغاني أو ألف ليلة وليلة، أو في الحكايات الموروثة عن عنترة وعلى
الزيبق والأميرة ذات الهمة وحسن ونعيمة، وحتى في كتب المدارس يتم التركيز على
الضأن من خراف ونعاج دون الماعز، وفي مدينة الأقصر تقف كباش الضأن ذات القرون
المخيفة الملتوية على أجناب طريقين: طريق الكباش المؤدي لمعبدالأقصر، ثم بعده
بثلاثة كيلو مترات: طريق الكباش المؤدي لمعبدالكرنك، ودون أن تجد أثرا للماعز، مع
أن الماعز يتقافز فوق كل مسطحات الصعيد أكثر من الغنم (الضأن) بمراحل.
وترجع كثرة الماعز في كثير من البقاع -
حتى القاحلة - إلى أن غذاءها لا يتوقف عند حدود الحشائش والكلأ والدريس والتبن
وأوراق الشجر والحسك (الأعشاب الشوكية)، بل يتعدى ذلك إلى أي شيء هش تجده في
طريقها، وفي الغردقة وسفاجا - على ساحل البحر الأحمر- ستجد قطعان الماعز تتقافز في
مناطق لا أثر لأي أخضر فيها، ذلك أنها تتغذى على ورق الجرائد وبقايا العبوات ومواد
التغليف والنفايات والقمامة، وتظل - دون أي شكوى - تتعابث وتتناطح في رشاقة سلسة
متناغمة على إيقاع فريق باليه يتراقص في نحيلتك على أضواء عالم يخلو تماما من
الشر.
إرسال تعليق