لا أستطيع أن أتصور وطنا
دون بط، هذا الطائر المائي الساذج الذي يمشي نفس مشية الجيش النازي المغرور، كما
أني لم أكن أتصور أنه يمكن أن تكون ثمة بركة - أو قناة - ريفية تخلو من سرب بط،
يفح الذكر منه في عنجهية ليدرأ ما يراه عدوانا على هدوء الجماعة، وصوته المبحوح هو
الذي جعل مناطق كثيرة في الصعيد المصري تطلق عليه (بح) بكسر الباء وتشديد الحاء،
ومنه تأتي الأنثى (بحة)، ويتركون اسم الجنس (بط) ليسحب على الأوز - أو الوز - في
نفس الوقت، وهو اختلاط في الأسماء لا تنتبه إليه كتب المدارس.
ومنذ سنوات أخذني الشوق
لأوز معتقل (المحاريق) بواحة الخارجة (الوادي الجديد)، والذي جاءت سيرته كثيرا في
كتب محمود السعدني وزملائه من المعتقلين المشهو رين في عصر عبدالناصر، كان أنور
السادات قد أعلن - فور أن تولى الحكم - هدم المعتقلات، وجاءت الصورة الإعلامية وقد
أمسك بمعول يحطم به واجهة أحد المعتقلات، وبعد اغتيال السادات قمت بزيارة مواقع
(تاريخية) من هذا النوع، وكان معتقل المحاريق - في عزلته - أشبه بناسك متوحد مع
الوجود، كان خاويا لا أثر للضجيج المحاصر فيه، وحوله كان ثمة جدول ماء منطلقا من
إحدى العيون وقد غص بالمئات من البط، ما كاد يراني حتى انطلق الفحيح ذو الصوت
المبحوح، وآلاف من بيضه قد ملأت شواطئ الجدول عشوائيا، كان المنظر فريدا، ولا سيما
حينما خرجت أسراب من ذكور (البح) من الماء تحاول مهاجمتي، وانطلقت - حينئذ - أسراب
الغربان الكامنة في الشجر، مرة أخرى: تشارك البط في الاحتجاج. كان المنظر فريدا.
ويحتل البط السمين موقعا مميزا في طعام
ليلة الهناء، فرح العرسان، بديلا لزوج الحمام الشهير، كما أن شريحة من صيادي
الطيور تخصصت فيه وتعرف وسائلها لتسويقه لعشاق لحمه، وتعتبر بحيرة قارون (الفيوم)
ووادي الريان المجاور من أخصب أماكن اصطياد أخف أنواعه وزنا: الشرشير، وهو نوع من
البط الطائر المهاجر الذي يفد إلى مصر شتاء، إضافة إلى البط أحمر الرأس، والسكوتر،
والإيدر، والكانفار باك، وكلها طيور المياه البحرية - المالحة - عدا الشرشير الذي
لا يتوقف عند نوع الماء، والذي نشاهده مع الخضاري، وبط الغابة، والبط الأسود، في
مستنقعات المياه العذبة، وأنواع أخرى عديدة يضاف إليها بط بكين المستأنس مع بط
المنازل الشهير.وكان ت حلقات الزار المصرية تعتمد على ذبح (البط الأسود المتضخم
نوعا) تحت قدمي صاحبة حلقة الزار، يطلبه عفريت سوداني ويستمتع به كلما كان الذكر
ذا فحيح مقلق، كما أن كثيرين من أثرياء مصر - في عصور غابرة - كانوا يقيمون
موائدهم لأصدقائهم عامرة بالبط والحمام في الهو اء الطلق. ويعتقد أهل الريف بالذات
أن للبط أهميته القصوى في تجديد القوى، ولا سيما إذا ما حفل بالبهارات الحامية،
وبالتأكيد فإن للبط فاعليته المعروفة في علاج الأنيميا - شعبيا وعلميا، وترى لوحات
ورسومات متعددة لإناث تحمل من السلال، وبالأيدي، أزواجا من البط عائدة بها من
الأسواق: في مقابر بني حسن بالمنيا، وعلى جدران مقابر وادي الملكات بالأقصر، كما
أن إشارة رسم البطة تتكرر كثيرا في اللغة الهيروغليفية المنقوشة على الجدران كحرف
من حروف نطقها، وكان صناع التمائم والأحجبة يرسمونها مع الديك البلدي في حالة شجار
علاجا لمن تأخروا في النطق من الأطفال.إذا كان لذكر البط أسلوبه في مهاجمة من
يقترب من سربه بإطلاق فحيح ممزوج بصراخ مبحوح، فإن الإناث تظل متجمعة بعيدا في
سلبية واضحة، ويقال إن الثعلب - لذلك - لا يستطيع مهاجمة ذكر البط، ويقفز فوقه
مبتغيا الإناث، ومع شراسة الذكر يظل أيضا هو المأمول ليأكله الناس، لضخامة حجمه
أولا، ولقلة الدهون نوعا في تكويناته الداخلية، كما أن مصطلح (الزفر) الذي نسمعه
يتردد في تمثيليات الإذاعة والسينما والتليفزيون يقصد به ذكر البط فقط، مع أننا - في
عصورنا المتأخرة - لا نفرق في (الزفر) بين ذكر وأنثى.
وتظل البطة البرية - رائعة هنريك ابسن
النرويجي - من أجمل الأعمال المسرحية التي تعاملت مع البط، وقصص الشمال الأوروبي
الشعبية عموما فيها كثير من ذلك، كما أن والت ديزني الأمريكي صمم دونالد دك الطيبة
المشاغبة في رسومه الكرتونية العديدة التي شملت ميكي ماوس أيضا. وغير ذلك يظل البط
أسير البرك والمستنقعات والجداول والبحيرات، وبطون الناس.
إرسال تعليق