-->

قصيدة لبنى للشاعر قيس بن ذريح


هذه القصيدة تحمل إلينا بعض العطر من قصص الحب العذري، الذي غذته وساعدت عليه حياة البادية وأخلاقها وطبيعتها التي تمكنت من روح العربي القديم وسرت في وجدانه. هي إذن سمات الفروسية وتقاليدها من البطولة في الحرب وحماية الجار والوفاء بالعهد والكرم السابغ العميم ثم جاء الإسلام ليهذب من الطبائع والنفوس، وليجد في الحب العذري رافدا آخر من العفة والتصون والزهد والرضا بالمقدور والإيمان الذي لا يتزعزع.

وفي ديوان الشعر العربي تلتمع قصائد عدد من الشعراء العذريين: مجنون ليلى وجميل بثينة وكثير عزة وعروة عفراء، فضلا عن ابن الدمينة وأبي صخر الهذلي ونصيب.. وغيرهم عبروا جميعا - في شعرهم - عن عاطفة مشبوبة تغالب قسوة الحرمان وتعاني ضراوة الشوق، لكنها لا تتطلع إلى متعة حسية، عاطفة سموا بها سموا تجلى في اعتزازهم بها والتضحية في سبيل الإبقاء عليها بكل ما يستطيعون بذله من جهد والآم ومعاناة، زهدا في المحرمات وإيثارا للتقوى. لقد دفعهم الحرمان إلى التسامي، الذي لا يتاح إلا لمن يؤمنون بقيم روحية وخلقية ويحرصون على القيم الإنسانية والمثل العليا.
ولعل أجمل تقديم لشاعرنا قيس بن ذريح - صاحب هذه القصيدة والذي عرف باسم قيس لبنى - هو ما نجده لدى ابن فضل الله العمري في كتابه :"مالك الأبصار في ممالك الأمصار" وهو يقول عنه: "عاشق شفه التبريح، ووامق لم يشفه التصريح، تيمه حب لبنى وهيمه هواها فما أغنى، أصبته حسنا وسبته بمحيا كالبدر أو أسني، جلبت له حزنا طويلا، وجنت له من روض حسنها مرعى وبيلا، تزوج بها وهو بها كلف، وبحبها شغف، ثم أدمن مجالستها وأدام مؤانستها، وولع بتأمل محاسنها، وتنقل نظره في رؤية أحاسنها، حتى طبع هواها على قلبه، وطلع أنينه بما قطع من خلبه، وألف لأجلها ظل الخباء لا يفارقه، وأنكر فضل الحياء كأنه ما دبت بخده شقائقه.
فعز هذا على أبيه، وطالبه بطلاقها فأبى، وأبى أبوه إلا أن يذيقه مرارة فراقها على صبي. ثم لما رأى إصراره على حب لبنى واستمراره على حاله المعنى، أصحر أبوه وآلي ألا يستظل ببيت حتى يلقي حبلها على غاربها، ويلحق خطاها ببيت أقاربها، وكان أوان حر تلفح هواجره وينفح بالسموم ناجره.
فأقبل كهول الحي على قيس يلومونه على حقوق أبيه، ويخوفونه عقوق أمره في امرأة تصبيه، ثم ما برحوا به حتى طلقها، فما انطلقت إلا وهي لبه، وفارقها فما فارقته إلا ومعها قلبه. ووجد بها وجدا أقلق مضاجعه، وقلقل في المآقي مدامعه. وزوجه أبوه بامرأة غيرها ليسلو لبنى ويخلو معها أياما ينسى بها لياليه الحسنى، فما وقعت الثانية منه موقعا، ولا وجدت في قلبه موضعا، فبيت فراقها وبت طلاقها.
ثم الناس في قيس على قسمين : فمنهم من زعم أنه ردها، ونعم بها ليل التمام يفترش بردها، ومنهم - وهم الجمهور - على أنه بقى بخباله صريع هوى ما أفاق، وقريع جوى مني أحبابه بالفراق".
هذه هي القصة، قصة قيس ولبنى، كما رواها واحد من أهم مصادر التراث العربي القديم وأشهر كتب الجغرافيا فيه.
والموقف فيها موقف صراع وانقسام يعيشه قيس ويواجهه باعتباره قدرا تراجيديا لا مفر ولا سبيل إلى رده. إن نفسه منقسمة منشطرة بين بره لوالديه، وحبه لزوجته. ويزيد من ضراوة الصراع أن لبنى لم تنجب منه، وأن أمه - وقد رأت اغتصاب أخرى لوحيدها وتملكها إياه - تكيد لها عنده وتشعل نيران الوقيعة بينهما. وهو صراع يمزق قيسا ويكربه، طيلة عشر سنوات متصلة.
وفي لحظة ضعف ينهار قيس بن ذريح، ويذعن لطلب أبويه، وإلحاح قومه، ويطلق لبنى
وعندما يستشعر وقع الفجيعة، والفراغ الذي خلفته لبنى في حياته، واللوعة التي تملكت عليه جوانحه، ينطلق لسانه بالأشعار الباكية النادمة.
وفي هذه القصيدة - كما في سائر شعر قيس والعذريين جميعا - رقة وجزالة، وعاطفة صادقة مشبوبة، وتعبير جميل آسر يصفه القدماء بقولهم:"ونظمه في الذروة العليا رقة وحلاة وجزالة"
وفيها أيضا هذه الموسيقية المنسابة التي جعلت شعر جميل يتردد على ألسنة المغنين في زمانه، وقد وجدوا فيه كما وجدوا في شعر الأعشى من قبله - والذي عرف بصناجة العرب لما في شعره من جيشان موسيقي ولغة طيعة للغناء - صفاء شعر الطبع ورهافة لغة التعبير، في غير عنت أو مشقة، وذاعت من القصيدة أبيات تخيرتها الذاكرة العربية عبر العصور والأزمان.
في مثل هذه النماذج تطالعنا لوحة شعرية فاتنة، وقدرة فذة على التصوير والتجسيد وتوزيع الألوان والظلال، خاصة عندما يصور المجال النفسي الذي يواكب صراعه الداخلي ووقع الفجيعة في نفسه وسيطرة مشاعر الندم عليه، وعندما يبدع هذا الإيقاع الموسيقي المواكب لحركة النفس انقباضا واندفاعا، قلقا وانخطافا، وتصوير الإطار الطبيعي لقصيدته عندما كان يكنهما سقف واحد : هو ولبنى، بل إن الليل البهيم هو الذي يلبسهما حين يخيم بظلمته - وقد كان المعهود في صور الشعر العربي أن المحب الذي أضناه طول الليل هو الذي يلتحف بالليل ويلبسه - ويصور قيس كيف يشرق عليهما الفجر الساطع معا بعد هذا الليل الذي جمعهما معا، وكيف أن محبتهما قد ثبتت في القلب ثبوت الأصابع في الراحتين.
وهي صور شعرية تتابع ورودها في شعر قيس بن ذريح. إن هذه الظواهر الطبيعية التي تجمع بين الحبيبين هي في حقيقتها بديل عن الواقع الذي أصبح يغلفه اليأس والشعور بالفقد والندم والضياع.
ولقد كانت حياة قيس كما كان شعره، شاهد عدل على حقيقة هذا التعريف الذي صاغه قيس على هذه الصورة الشعرية البديعة، وعلى صدق كل ما ارتبط به من دلالات وإيحاءات وظلال.
يقول قيس بن ذريح :
لعل لبينى أن يحم لقاؤها  ببعض البلاد، إن ما حم واقع
بجزع من الوادي خلا عن أنيسه عفا وتخطته العيون الخوادع
ولما بدا منها الفراق، كما بدا    بظهر الصفا الصلد الشقوق الشوائع
تمنيت أن تلقى لبيناك، والمنى   تعاصيك أحيانا، وحينا تطاوع
وما من حبيب وامق لحبيبه     ولا ذي هوى إلا له الدهر فاجع
وطار غراب البين وانشقت العصا      يبين كما شق الأديم الصوانع
ألا يا غراب البين قد طرت بالذي      أحاذر من لبنى، فهل أنت واقع!
وإنك لو أبلغتها قيلك : اسلمي   طوت حزنا وارفض منها المدامع
أتبكي على لبنى، وأنت تركتها   وكنت كآت غيه وهو طائع ؟
فلا تبكين في إثر شيء ندامة   إذا نزعته من يديك النوازع
فليس لأمر حاول الله جمعه     مشت، ولا ما فرق الله جامع
طمعت بلبنى أن تريع، وإنما    تقطع أعناق الرجال المطامع
كأنك لم تقنع إذا لم تلاقها وإن تلقها فالقلب راض وقانع
فيا قلب خبرني إذا شطت النوى بلبنى وصدت عنك ما أنت صانع
أتصبر للبين المشت مع الجوى  أم أنت امرؤ ناسي الحياء فجازع
فما أنا إن بانت لبينى بهاجع    إذا ما استقلت بالنيام المضاجع
وكيف ينام المرء مستشعر الجوى      ضجيع الأسى فيه نكاس روادع
فلا خير في الدنيا إذا لم تواتنا   لبينى، ولم يجمع لنا الشمل جامع
أليست لبينى تحت سقف يكنها  وإياي، هذا إن نأت لي نافع
ويلبسنا الليل البهيم إذا دجا     ونبصر ضوء الصبح والفجر ساطع
تطا تحت رجليها بساطا وبعضه أطاه برجلي، ليس يطويه مانع
وأفرح إن أمست بخير وإن يكن  بها الحدث العادي ترعني الروائع
كأنك بدع لم تر الناس قبلها     ولم يطلعك الدهر فيمن يطالع
فقد كنت أبكي والنوى مطمئنة   بنا وبكم من علم ما البين صانع
وأهجركم هجر البغيض، وحبكم  على كبدي منه كلوم صوادع
فواكبدي من شدة الشوق والأسى وواكبدي إني إلى الله راجع
وأعجل للإشفاق حتى يشفني    مخافة وشك البين والشمل جامع
وأعمد للأرض التي من ورائكم   لترجعني يوما إليك الرواجع
فيا قلب صبرا واعترافا لما ترى   ويا حبها قع بالذي أنت واقع
لعمري لمن أمسي وأنت ضجيعة من الناس ما اختيرت عليه المضاجع
ألا تلك لبنى قد تراخى مزارها   وللبين غم ما يزال ينازع
إذا لم يكن إلا الجوى، فكفى به  جوى حرق قد ضمنتها الأضالع
أبائنة لبنى ولم تقطع المدى     بوصل ولا صرم فييأس طامع
يظل نهار الوالهين نهاره  وتهدنه في النائمين المضاجع
سواء، فليلي من نهاري وإنما    تقسم بين الهالكين المصارع
ولولا رجاء القلب أن تسعف النوى     لما حملته بينهن الأضالع
له وجبات إثر لبنى، كأنها شقائق برق في السحاب لوامع