تاريخ سوريا القديم؟ وكيف كانت منطقة بالغة الأهمية تتنازع عليها الحضارات والأمم؟
سوريا واحدة من أقدم المناطق المأهولة بالسكان في العالم وفقًا للاكتشافات الأثرية التي تُرجع تاريخ الاستيطان البشري الأول في المنطقة لـ700000 سنة. كما وجد في مغارة ديدرية بالقرب من حلب عددٌ من الاكتشافات المهمة مثل هيكل عظمي لطفل الديدرية الأول الذي عاش فيها بين 100 ألف و 40 ألف سنة مضت، وهو أول دليل على وجود الإنسان الحديث هناك، وما يثبت الاستيطان المستمر للموقع على مدار فترة طويلة.
يظهر من اكتشافات الهياكل العظمية البشرية والسيراميك والأدوات الخام أنه كان هناك هجرات جماعية في أنحاء المنطقة ما أثّر على جماعات مختلفة، ولكن من غير المعروف سبب حدوث هذه الهجرات في حال حدثت بالفعل، بيد أنها تظهر من خلال الاكتشافات الأثرية في جميع أنحاء المنطقة التي تُظهر تغييرات كبيرة في صناعة السيراميك والأدوات الموجودة في مواقع مختلفة. ومع ذلك يمكن تفسير هذه التطورات بسهولة بالتبادل الثقافي بين القبائل في المكان أو بسبب تطورات مماثلة في عملية التصنيع بدلاً من تفسيرها بالهجرة على نطاق واسع. يذكر المؤرخ الألماني (فولفرام فون سودن): ”سعى الباحثون إلى استنباط التطورات الهامة، مثل الهجرات الشعبية، من التغييرات الثقافية التي يمكن قراءتها في البقايا الأثرية، لا سيما في المواد الخزفية … ومع ذلك، يمكن أن يكون هناك تغييرات متكررة وجوهرية في أسلوب صناعة السيراميك، حتى لو لم يكن هناك أشخاص آخرون قدموا إلى مكان الحدث“.
يعتقد أن تغير المناخ في المنطقة قبل 15000 سنة ربما أثر على البشر ودفعهم للتخلي عن نمط حياة الصيد وجمع الثمار وبدء النمط الزراعي في سوريا، أو أن القبائل المهاجرة أدخلت الزراعة إلى مناطق مختلفة منها. يكتب (سودن): ”نسمي تلك الفترات التي لم يتم فيها كتابة أي شيء بـ «عصور ما قبل التاريخ»، وبذلك نفترض أن الأحداث ذات الأهمية الكبرى لم تحدث بعد“.
تكمن أهمية نظرية الهجرة الجماعية في أنها توضح كيف أصبحت الزراعة منتشرة على نطاق واسع في هذه البقعة الجغرافية، ولكن مرة أخرى هذه النظرية بعيدة كل البعد عن الإثبات، ومع ذلك من الواضح أن الحضارة الزراعية ازدهرت بالفعل في المنطقة قبل تدجين الحيوانات 10000 قبل الميلاد وبدء أحد أعرق الحضارات في التاريخ.
الاسم والتاريخ المبكر
في تاريخها المكتوب المبكر، يُذكر أن المنطقة كانت تُعرف من قبل بلاد ما بين النهرين باسم «عابر ناري» (عبر النهر) وذلك شمل سوريا الحديثة ولبنان وفلسطين (تُعرف مجتمعة باسم المشرق الأدنى). يشار إلى عابر ناري في الكتب التوراتية سفري عزرا ونحميا وكذلك في تقارير كتبة الملوك الآشوريين والفرس. يدّعي بعض العلماء أن اسم سوريا الحديث مستمد من عادة المؤرخ الإغريقي (هيرودوت) في الإشارة إلى كل بلاد ما بين النهرين باسم آشور، وبعد سقوط الإمبراطورية الآشورية في عام 612 قبل الميلاد، ظل الجزء الغربي يسمى آشور حتى ظهور الإمبراطورية السلوقية، عندها أصبحت تعرف باسم سوريا.
لكن تم الجدال في هذه النظرية من خلال الادعاء بأن الاسم يأتي من العبرية، وأن أهل الأرض كان يشار إليهم باسم ”سيريون“ من قبل العبرانيين بسبب الدروع المعدنية لجنودهم (سيريون تعني الدروع، وبالتحديد دروع الزرد، في اللغة العبرية). هناك أيضًا نظرية مفادها أن لفظ سوريا مشتق من الاسم الصيداوي لجبل حرمون الذي عُرف بـ ”سيريون“، حيث يُقال إن الاسم يأتي من الكلمة السومرية ”ساريا“ وهي اسم جبل حرمون لديهم. لكن نظرًا لأن تسميتا ”سيريون“ و ”ساريا“ لم تُعرفا لدى (هيرودوت)، ولامتلاك الأخير تأثيراً هائلاً على الكتّاب الأقدمين في العصور القديمة، فمن المرجح أن الاسم الحديث سوريا مشتق من ”آشور“ (الذي يأتي من الاسم الأكادي لأعظم الآلهة لدى الآشوريين) وليس من الافتراضات السابقة الأخرى.
يعود تاريخ المستوطنات المبكرة في المنطقة، مثل تل براك (يقع غربي نهر جغجغ أحد روافد نهر الخابور وعلى بعد 42 كم من مدينة الحسكة في سوريا)، إلى 6000 قبل الميلاد على الأقل. وقد كان من المتعارف عليه منذ فترة طويلة أن الحضارة بدأت في جنوب بلاد ما بين النهرين في منطقة سومر (جنوب بلاد الرافدين) ثم انتشرت شمالًا، غير أن الحفريات في تل براك طعنت في هذا الرأي، والعلماء منقسمون بشأن ما إذا كانت الحضارة قد بدأت فعلاً في الشمال أو إذا كانت هناك تطورات متزامنة في كل من منطقتي بلاد ما بين النهرين. لا يزال الادعاء بأن ”التاريخ يبدأ في سومر“، على حد تعبير الباحث (صموئيل نوح كريمر)، مقبولاً على نطاق واسع. ويرجع ذلك إلى اليقين بوجود ما يسمى شعب العبيد الذين قطنوا جنوب بلاد ما بين النهرين قبل ظهور المجتمعات في الشمال مثل تلك في تل براك.
سيستمر هذا النقاش حتى يتم اكتشاف دليل حاسم على التطور المبكر في الشمال، أو العكس. وحتى اكتشاف تل براك (الذي تم التنقيب عنه لأول مرة بواسطة عالم الآثار البريطاني (ماكس مالوان) في 1937/1938)، لم يكن هناك شك فيما يتعلق بأصول الحضارة في بلاد ما بين النهرين، ومن المحتمل جدًا أن تساعد الاكتشافات المستقبلية في البلدان التي كانت ذات يوم تشكل ما بين النهرين على اتخاذ حكم نهائي في هذه النقطة، على الرغم من أن الأدلة على بدء الحضارة في سومر تبدو أكثر ترجيحًا في هذه المرحلة.
قصة مدينتينبقايا القصر في ماري. صورة: Wikimedia Commons
ماري وإيبلا هما أهم مدينتين في سوريا القديمة. تقع ماري في منطقة الفرات الأوسط شرق سوريا وظهرت في الألفية الثالثة قبل الميلاد وإيبلا في شمال غرب سورية سنة 3500 قبل الميلاد حتى القرن السابع الميلادي. كلا المدينتين استخدم الكتابة السومرية، وعبد آلهة السومرية وارتدى الأزياء السومرية، ولطالما اعتبرتا مركزين حضريين شكلتا مستودعات لمجموعات من الألواح المسمارية الضخمة المكتوبة بالأكادية والسومرية والتي سجلت التاريخ والحياة اليومية والمعاملات التجارية والرسائل الشخصية للأفراد.
عند التنقيب عن إبيلا في عام 1974 وجد أن قصر المدينة قد احترق، وكما هو الحال مع مكتبة آشور بانيبال الشهيرة في نينوى، فإن النيران شوت الألواح الطينية فيه فحفظتها. في ماري، بعد تدميرها من قبل حمورابي في عام 1759 قبل الميلاد، دُفنت الألواح تحت الأنقاض وبقيت سليمة حتى اكتشافها في عام 1930، فقد زودت أقراص ماري وإيبلا معًا علماء الآثار بفهم كامل نسبياً للحياة في بلاد ما بين النهرين في الألفية الثالثة قبل الميلاد.
سوريا وإمبراطوريات بلاد ما بين النهرينآثار الجدار الخارجي وبوابة دمشق في إبلا. صورة: Wikimedia Commons
تأسست كلتا المدينتين 4000-3000 قبل الميلاد وشكلتا مراكز هامة للتجارة والثقافة بحلول 2500 قبل الميلاد. احتل سرجون (2334-2279 قبل الميلاد) المنطقة وضمها لإمبراطوريته الأكادية. ظل النقاش مستمرًا منذ عدة عقود سواء كان سرجون أو حفيده نارام سين أو أهل إيبلا أنفسهم من دمروا المدن لأول مرة خلال الفتح الأكادي، لكن كلا المدينتين تكبدتا أضرارًا جسيمة خلال فترة حكم إمبراطورية أكاد لتعود وتزدهر مجددًا تحت سيطرة العموريين بعد سقوط الإمبراطورية الأكادية في الألفية الثانية قبل الميلاد. في هذا الوقت أصبحت سوريا تعرف باسم أرض عمور حيث أدعى العموريون أحقيتم بالأرض وقاموا بعمليات توغل في بقية بلاد ما بين النهرين طوال تاريخهم، لكن المنطقة السورية انتزعت من سيطرتهم باستمرار.
نظرًا للاعتراف بها كمنطقة تجارة حيوية بموانئها على البحر الأبيض المتوسط، فقد تم تقدير أهمية سوريا من قبل إمبراطوريات بلاد ما بين النهرين. فاستولت مملكة الحوريين من ميتاني (من عام 1475 إلى عام 1275 قبل الميلاد شمال الهلال الخصيب في سوريا وما بين النهرين) على المنطقة وبنت مدينة واشوكاني (أو أعيد بناءها قرب تل الفخيرية شمال سوريا غالبًا) كعاصمة لها والتي غزاها الحثيين في عهد الملك الحثي (شوبيلوليوما الأول) –1344-1322 قبل الميلاد –الذي وضع حكام الحثيين على عرش ميتاني.
كان لمصر منذ فترة طويلة علاقات تجارية مع سوريا (الاكتشافات الأثرية في إيبلا تدعم فكرة التجارة مع مصر منذ عام 3000 قبل الميلاد) وخاضت عددًا من المعارك مع الحثيين للسيطرة على المنطقة والوصول إلى طرق التجارة والموانئ. كان الملك (شوبيلوليوما الأول) قد استولى على سوريا قبل فتح ميتاني، ومن قواعده هناك قام بعمليات توغل على طول ساحل بلاد الشام مهددًا حدود مصر. وبسبب تساوي القوى بين الحثيين والمصريين، فلم يستطع أي منهما فرض سيطرته الكاملة حتى توفى (شوبيلوليوما الأول) وخليفته (مرسيلي الثاني)، ولم يتمكن الملوك الذين جاؤوا بعدهم من الحفاظ على نفس المستوى من السيطرة.
دارت معركة قادش القانية الشهيرة عام 1274 قبل الميلاد، بين المصريين والحثيين على المركز التجاري لقادش في سوريا ولصد التقدم الحثي واسترجاع نفود الدولة المصرية في بلاد الشام، وعلى الرغم من أن كلا الطرفين ادعيا النصر إلا أنهما لم يحققا هدفهما، وهذا ما لاحظته القوة الأخرى المتنامية في المنطقة: الآشوريون. كان الملك الآشوري (آداد نيراري الأول) –1307-1275 قبل الميلاد –قد طرد الحثيين من المنطقة التي كان يسيطر عليها في السابق ملك ميتاني وخليفته، حيث هزم الملك الأشوري (توكولتي نينورتا الأول) –1244-1208 قبل الميلاد –القوات الحثية بشكل حاسم في معركة نيهريا في حوالي 1245 قبل الميلاد.قصرٌ عموري. صورة: Gerhard Huber
حاول العموريون بعد ذلك فرض سيطرتهم عند سقوط الحثيين فكسبوا وخسروا الأراضي أمام الآشوريين على مدى القرون القليلة التالية حتى وصلت الإمبراطورية الآشورية الوسطى إلى السلطة واستولت على المنطقة بالكامل واستقرت فيها. هذا الاستقرار السياسي لم يدم بسبب غزوات شعوب البحر حوالي 1200 قبل الميلاد، وتغير القوى في مناطق بلاد ما بين النهرين باختلاف المماليك الغازية (مثل الغزو العيلامي في 1750 قبل الميلاد والذي أنهى الثقافة السومرية). استمر عدم الاستقرار في المنطقة حتى تفوّق الآشوريون مع صعود الإمبراطورية الآشورية الجديدة في عهد الملك (آداد نيراري الثاني) –912-891 قبل الميلاد، فوسعوا إمبراطوريتهم عبر بلاد الشام، وفي النهاية سيطروا على مصر نفسها.
بعد سقوط الإمبراطورية الآشورية في عام 612 قبل الميلاد، سيطرت بابل على المنطقة وباتت تمارس سيطرتها على المناطق المحيطة في الشمال والجنوب، فاحتلت سوريا ودمرت ماري. يكتب المؤرخ (بول كريواتشيك كيف) عن فترة ما بعد غزو بابل لآشور: ”كان النصف الغربي من آشور يطلق عليه مقاطعة آشور، وبعد أن فقد أحرفه الأولى أصبح سوريا. احتفظت الإمبراطورية الفارسية بنفس الاسم كما إمبراطورية (الإسكندر) وخلفها الدولة السلوقية، وكذلك الإمبراطورية الرومانية التي كانت وريثتها“.
في ذاك الوقت، كان الآراميون هم الأغلبية في سوريا وأبجديتهم هي التي اعتمدها الملك الآشوري (تغلث فلاسر الثالث) لتحل محل الأكادية في الإمبراطورية، وهي التي زودتنا بالتاريخ المكتوب للمنطقة. لقد احتل الفينيقيون، قبل هذا الوقت، المناطق الساحلية في سوريا وأصبحت أبجديتهم التي اندمجت مع أبجدية الآراميين وشكلتها (مع بعض الكلمات الدخيلة من الأكادية)، هي نوع الكتابة الذي ورثه الإغريق.
سوريا والإنجيل
استحوذت بابل على المنطقة من 605-549 قبل الميلاد وحتى الفتح الفارسي وصعود الإمبراطورية الأخمينية (549-330 قبل الميلاد). غزا (الإسكندر الأكبر) سوريا في عام 332 قبل الميلاد، وبعد وفاته في عام 323، حكمت الإمبراطورية السلوقية المنطقة. حكم البارثيون (كانت الإمبراطورية الفرثية\الأرسكيدية قوة سياسية وثقافية إيرانية كبرى في إيران القديمة) حتى أضعفتهم الهجمات المتكررة من قبل السكوثيين (شعب بدوي متنقل ينحدر من أصول إيرانية). استقبل شعب سوريا في الأناضول (140-55 قبل الميلاد) ملك مملكة أرمينيا (ديكرانوس الكبير) استقبال المحرّر في عام 83 قبل الميلاد ليستحوذ على الأرض كجزء من مملكته حتى استولى القائد العسكري (بومبيوس الكبير) على أنطاكية عام 64 ق م، ليجعل سوريا مقاطعة رومانية حتى تم غزوها بالكامل من قبل الإمبراطورية الرومانية في 115/116 قبل الميلاد.
شكّل العموريون والآراميون والآشوريون معظم السكان في ذلك الوقت، وكان لهم تأثير كبير على التقاليد الدينية والتاريخية في الشرق الأدنى. كتب المؤرخ البريطاني (بول كريوازيك)، مستشهداً بعمل البروفسور (هنري ساجز)، ما يلي: ”سمحت الفرصة لأحفاد الفلاحين الآشوريين ببناء قرى جديدة على المدن القديمة ومواصلة الحياة الزراعية مُحيين تقاليد المدن السابقة. بعد سبعة أو ثمانية قرون وبعد تقلبات مختلفة أصبح هؤلاء الناس مسيحيين. هؤلاء المسيحيون والمجتمعات اليهودية المنتشرة بينهم لم يحافظوا على ذكرى أسلافهم الآشوريين فحسب، بل دمجوا تقاليدهم بتلك الموجودة في الكتاب المقدس. فالكتاب المقدس في الواقع أصبح عاملاً قوياً في الحفاظ على ذاكرة آشور“.
أشار المؤرخ (برتراند لافون)، من بين باحثين أخرين، إلى التالي: ”تتضح أوجه التشابه أحيانًا بين محتوى ألواح ماري والمصادر التوراتية“. كتب (كريوازيك) و (بوتيرو) والعديد من العلماء والمؤرخين الأقدم منذ الاكتشاف لكثير من بلاد ما بين النهرين القديمة في القرن التاسع عشر الميلادي والعثور في القرن العشرين على ألواح إبلا كتبوا عن التأثير المباشر لإرث بلاد ما بين النهرين على الروايات التوراتية بحيث ما لا يجعل مكانًا للشك أن القصص الشعبية مثل خطيئة الإنسان، قابيل وهابيل، الطوفان العظيم والعديد من الحكايات الأخرى من الكتاب المقدس نشأت من أساطير بلاد ما بين النهرين.
ليس هناك شك أيضًا في أن اعتقاد التوحيد، كما هو موضح في الكتاب المقدس، كان موجودًا في بلاد ما بين النهرين من خلال عبادة الإله (آشور)، وأن هذه الفكرة عن الإله الواحد الذي يتمتع بكل القوى ستكون أحد الأسباب وراء كون الآشوريين أول من تقبل الديانة الجديدة وأنشأ مملكة مسيحية، ذلك لأنهم كانوا بالفعل على دراية بفكرة إله متواجد في كل مكان، والذي يمكن أن يجسد نفسه على الأرض في شكل آخر.
يوضح (كريوازيك) هذا بقوله: ”هذا لا يعني أن العبرانيين استعاروا فكرة إله واحد كلي الوجود من أسلافهم الآشوريين، لكنه يعني أن ألية إيمانهم الجديدة لم تكن جديدة تماما، فلم يكن الإيمان اليهودي-المسيحي-الإسلامي الذي بدأ في الأرض المقدسة عبارة عن مفهوم جديد بالكامل لدى الشعوب هناك، ولكنه نشأ من الأفكار الدينية التي استحوذت بالفعل على النظرة العالمية للمملكة الآشورية في العصر البرونزي المتأخر والعصر الحديدي المبكر في شمالي بلاد ما بين النهرين، والتي كان من شأنها نشر إيمانها في جميع أنحاء غرب آسيا على مدار القرون التالية لتؤثر فيما تلاها“.
شعب سوريا هو أكثر من احتفظ بتراث الإمبراطورية الأشورية، والذي يُزعم أنه كان له أن يؤثر على تصوير الملوك والمعارك والأحداث المسجلة في العهد القديم وحتى النظرة للإله كما ورد في العهد الجديد. كان (شاول الطرسوسي)، الذي سيعرف فيما بعد بـ (بولس الرسول) ثم القديس (بولس)، مواطنًا رومانيًا من طرسوس (الواقعة في الأقاليم السورية الشمالية التي أخضعت لاحقا لتركيا بموجب معاهدة سيفر بين تركيا وبريطانيا وفرنسا)، ادعى أنه أصابته رؤيا للمسيح بينما كان في طريقه إلى دمشق.
أول مركز رئيسي للتبشير بالمسيحية كان أنطاكية في سوريا، ومن تلك المدينة انطلقت بعثات التبشير بالديانة الجديدة. اقترح بعض العلماء مثل البريطاني (هيم ماكوبي) –وقبله (هاينريش غراتس) في كتابه تاريخ اليهود –أن (بولس) ولّف بين اليهودية وأساطير بلاد ما بين النهرين –وخاصة الآشورية –لإنشاء الدين الذي أصبح يعرف باسم المسيحية. إذا قبل المرء هذه الادعاءات فإن الفلسفة البابلية (وجهة النظر التاريخية بأن الكتاب المقدس مستمد من مصادر من بلاد ما بين النهرين) تدين بوجودها لشعب سوريا الذي ساعد على نشر والحفاظ ثقافة تلك البلاد.
روما، الإمبراطورية البيزنطية، والإسلاممنظرٌ لمدينة تدمر من عام 2014 يظهر فيه قوس النصر. صورة: Joseph Eid—AFP/Getty Images
كانت سوريا مقاطعة مهمة لكل من الجمهورية والإمبراطورية الرومانية على التوالي، حيث فضّل كل من (يوليوس قيصر) و(بومبيوس الكبير) هذه المنطقة الجغرافية. وبعد قيام الإمبراطورية، اعتبرت سوريا واحدة من أهم المناطق بسبب طرقها التجارية وموانئها على البحر الأبيض المتوسط. في الحرب اليهودية الرومانية الأولى بين عامي 66-73 ميلادي لعبت القوات السورية دورًا حاسمًا في معركة بيت حورون 66 ميلادي، حتى جرى نصب كمين لهم على أيدي قوات المتمردين وتم قتلهم بالكامل. حظي المحاربون السوريون بتقدير كبير من قبل الرومان لمهارتهم وشجاعتهم وفعاليتهم في المعركة، لذا فهزيمة فيلقهم في المعركة أقنعت روما بضرورة إرسال كامل قوات الجيش الروماني ضد متمردي يهودا، وتم قمع التمرد بوحشية من قبل (تيتوس) في 73 ميلادي بخسائر هائلة في الأرواح. شارك المشاة السوريون أيضًا في إخماد ثورة بار كوخبا في يهودا (132-136 ميلادي) وبعد ذلك قام الإمبراطور (هادريان) بنفي اليهود من المنطقة وأطلقوا عليها اسم سوريا فلسطين أو Syria Palaestina.تمثال لفيليب العربي. صورة: Wikimedia Commons
ثلاثة أباطرة حكموا روما كانوا سوريين بالولادة: إيل جبل (حكم 218-222)، ألكسندر سيفيروس (حكم 222-235) وفيليب العربي (244-249). أولى الإمبراطور (جوليان) –361-363، آخر إمبراطور غير مسيحي لروما، اهتمام خاص لأنطاكية كمركز مسيحي وحاول دون جدوى تهدئة الفتنة الدينية بين الوثنيين والمسيحيين في المنطقة لكنه أشعلها عن غير قصد.
بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية، أصبحت سوريا جزءًا من الإمبراطورية الشرقية أو البيزنطية واستمرت بكونها مركزًا مهم للتبادل والتجارة. بدأ الإسلام ينتشر في القرن السابع الميلادي عبر المنطقة عبر الغزوات العربية، وفي عام 637 ميلادي، هزم المسلمون جيوش الإمبراطورية البيزنطية في معركة الجسر الحديدي عند نهر العاصي في سوريا. كانت هذه المعركة معركة حاسمة بين البيزنطيين والمسلمين، وبعد سقوط أنطاكية والاستيلاء عليها، أصبحت سوريا تابعة للخلافة الراشدة.قلعة حلب. صورة: Sputnik / Michael Alaeddin
لم تتأثر غالبية السكان في البداية بالتغيير في الحكومة من البيزنطيين إلى المسلمين، حيث أظهر الغزاة المسلمون التسامح مع الديانات الأخرى وسمحوا بممارسة المسيحية كما كانت، غير أنه لم يُسمح لغير المسلمين بالخدمة في جيش الخلفاء الراشدين، وبما أن الجيش كان يؤمن عملاً ثابتًا فقد تكون غالبية الشعب قد اعتنقت الإسلام ببساطة للتمكن من نيل حق التوظيف، جرى جدال حول هذه النظرية ولكن كان هناك تحول مستمر إلى الإسلام من قبل غالبية السكان بالفعل.
انتشرت الإمبراطورية الإسلامية بسرعة في جميع أنحاء المنطقة وأصبحت دمشق عاصمتها، مما أدى إلى ازدهار غير مسبوق في أنحاء سوريا التي كانت، في ذلك الوقت، قد قُسمت إلى أربع محافظات لسهولة الحكم. أُسقطت الأسرة الأموية عن الحكم من قبل العباسيين في عام 750 لتنتقل العاصمة في ذلك الوقت من دمشق إلى بغداد ما تسبب في تدهور اقتصادي في جميع أنحاء المنطقة. تم إعلان اللغة العربية اللغة الرسمية في سوريا، ولم يعد يمكن استخدام الآرامية واليونانية.
كانت الحكومة الإسلامية الجديدة مشغولة بتنظيم شؤونها في جميع أنحاء الخلافة، فعانت مدن سوريا من التدهور، كما تم إهمال الآثار والمدن الرومانية نتيجة تحويل مصبات السدود عن المجتمعات الحيوية سابقا. وأصبحت المنطقة القديمة التي عرفت بعابر ناري سوريا المسلمة الآن، كما سيظل الناس يعانون صراع القوات الغازية من مختلف أمراء الحرب والفصائل السياسية التي تقاتل من أجل السيطرة على موارد المنطقة على مدى القرون الطويلة القادمة دون اعتبار للتاريخ العريق للأرض أو الحفاظ على هذا التاريخ وتلك الموارد، أو السكان الذين يعيشون هنا؛ هذا الوضع الذي استمر لآلاف السنين لا يزال قائمًا في المنطقة، بأشكال مختلفة، حتى يومنا هذا.
إرسال تعليق