-->

الدولة: نشأة الدولة وتاريخ تطورها


في البدء، كانت الأسرة.. ولكن سرعان ما عرفت البشرية فكرة الدولة التي يتنازل فيها الفرد عن جزء من حريته ليقيم سلطة تحكمه، وتحميه، وتضمن له أساسيات الحياة في مجتمع متنافس تتضارب فيه المصالح.

ظهرت الدولة، وقامت الحكومة منذ آلاف السنين في كل من مصر والصين.. وكانت بمثابة سلطة مركزية تحمي حدود رقعة جغرافية، وتضمن الأمن للناس، كما تضع القانون وتوفر ركائز العدل بين المواطنين.. هي سلطة قهر: تفرض القواعد، وتضع العقوبات، وتملك السجون، وتحدد الضرائب.. لكنها أيضا توفر الخدمات وتستهدف الرفاهية.
وقد اختلفت الدول من حيث النشأة، فقامت الدولة الأثينية القديمة على نظام العبودية.. وقامت الدولة الهندية المغولية والصين الإمبراطورية على أسس مختلفة.. ولعب النيل دوره في نشأة الدولة المصرية.. واختلفت قوة الدولة طبقا لمساحتها وإمكاناتها المادية والبشرية وطريقة إدارتها. قامت على احتلال الأراضي في بعض الأحيان وتخلت عن ذلك في أحيان أخرى.
اختلفت القصة من بلد إلى بلد، ولكن بقيت هناك سمات مشتركة تجمع كل الدول: إطار جغرافي محدد، سكان بعينهم، سلطة مركزية وسيادية.
وعرف القرن الثامن عشر فكرة الدولة القومية، التي تجعل هناك تطابقا بين القومية وإطار الدولة.. ثم اهتزت الفكرة فجمعت دول كبرى العديد من القوميات.. ثم عادت نغمة القومية من جديد.
إنها قصة آلاف السنوات لكن نصف القرن الأخير من القرن العشرين كان شيئاً آخر.
في عام 5491 كان عدد الدول التي انضمت للأمم المتحدة، والتي كانت قائمة حينذاك: 05 دولة فقط.. وفي عام (6991) أصبح الرقم (581) دولة.. وشهدت العشرية الأخيرة من القرن ميلاد ووفاة الكثير من الدول.. في عام (9891) كان عدد الدول: (651) دولة فقط أي أن (92) دولة جديدة قد شهدها العالم بين (98 و6991).
تفكك الاتحاد السوفييتي، وتحول إلى دول مستقلة، وتجددت فكرة الدول القومية ووقعت صراعات وحروب من أجل إنشاء دول جديدة ذات طابع قومي.
لم يستمر الاتحاد السوفيتي كإطار يجمع عددا من الجمهوريات والأقاليم، فسقط الاتحاد ونشأت بدلا منه دول مستقلة ذات سيادة.
في نفس الوقت لم تستطع (الدولة) في شرق أوربا أن تستمر في دورها القديم كدول اشتراكية ذات اقتصاد مخطط فتحولت إلى نظم جديدة تؤمن باقتصاد السوق.
وهوت دول إلى حد الذوبان نتيجة الحروب الأهلية أو فقدان المصداقية لدى شعوبها، أو عجزها عن توفير الوظائف الأساسية ومنها: توفير الأمن والاستقرار.. وشهد العالم ما نسميها مجازا ظاهرة (اللا دولة) في الصومال وليبريا وأفغانستان، بل إن دولا عربية قد شهدت نفس الظاهرة لبعض الوقت مثل الكويت نتيجة الغزو أو لبنان بسبب الحرب الأهلية.
ولم يكن ميلاد دول واختفاء أخرى هو ما حظى بكل الاهتمام عند علماء السياسة.. بل كان الاهتمام أيضاً، وربما بدرجة أعلى بدور الدولة، وماذا ينبغي أن يكون؟
قالت بعض الآراء إنه بسقوط الاتحاد السوفييتي، وتراجع فكرة الدولة المتسلطة أصبح البديل لتنظيم وإدارة المجتمعات (السوق). وجاء تقرير مهم للبنك الدولي ليقول: (إن هذا هراء لا أساس له!.. فالسوق وحده لا يكفي، وغياب الدولة هو الجحيم، بل إن الدولة ضرورية للسوق ذاته).
ويقول جيمس د. ولفنستون رئيس البنك الدولي في تقديمه لتقرير (الدولة في عالم متغير) الصادر في منتصف عام (79) إنه (من دون دولة فعالة يتعذر تحقيق التنمية المستديمة سواء في جانبها الاقتصادي أو الاجتماعي).
ويتوقف البنك الدولي أمام ما يردده البعض من أن الاشتراكية، وحدت في الدول النامية، كما حدث في العالم الصناعي أيضا حيث عجزت الحكومات أن تلغي معاناة الناس من البطالة أو سوء العيش في سن التقاعد.. ويقول التقرير: (وبناء عليه يطالبون بأقل دور ممكن للدولة، لكن الشواهد تقول إن هذا رأي متطرف تدحضه قصص النجاح في التنمية العالمية سواء كان ذلك فيما شهده العالم من تطور خلال القرن الـ (91) أو معجزات النمو في شرق آسيا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. إنها نماذج أثبتت أن التنمية تحتاج إلى دولة فعالة لتقوم بدور الحافز والميسر للتطور.
تؤكد دراسة البنك الدولي ذلك ثم تسرد كيف ازدادت الدولة قوة في نصف القرن الأخير وكيف استجدت عوامل تدعونا لإعادة النظر.. لتطوير الدور وليس تقويضه أو الغاؤه.
كانت مبررات التوسع في دور الدولة قائمة في كل مكان.. في العالم الاشتراكي.. كان هناك نظام قائم على التدخل سواء في الإنتاج أو التوزيع أو ضبط أهداف المجتمع.. وفي العالم الثالث، كانت هناك الحاجة إلى قاطرة تجر الاقتصاد والمجتمع فيما بعد الاستقلال.. بل كانت هناك الحاجة إلى بناء الدولة وتوفير دعائمها الرئيسية.
أيضاً، وفي دول النفط، وبعد صدمة 3791 ـ 4791.. كانت هناك العوائد الكبيرة التي استدعت دور الدولة لتبني مجتمع الرفاهية، ولتوفر أسس التنمية، ولتقيم جيوشاً تحمي حدودها وثروتها. كانت البداية، ومازالت ثروة عامة مملوكة للشعب.. وكانت النهاية، بالضرورة، يدا حكومية تقرر استخدامات هذه الثروة وهو ما جعل القطاع العام في هذه الدول التي يؤمن الكثير منها بنظام الاقتصاد الحر أضخم كثيرا من القطاع العام في دول طبقت أو نادت بالاشتراكية.
حتى الدول الصناعية الرأسمالية كان نمو الدولة فيها ضروريا. خاصة بعد الكساد العظيم في الثلاثينيات، وبعد الخراب الذي لحق بأوربا في الأربعينيات.
الظروف كلها كانت تستدعي الدولة لتكون حاضرة، والمفاجأة التي يقدمها تقرير البنك الدولي هو أن الدولة ذات الاقتصاد الحر كانت أكثر حضورا من غيرها.. ومازالت!.
في إحصائية يقدمها البنك الدولي أن نسبة النفقات الحكومية من الناتج المحلي في بلدان منظمة التعاون والتنمية. كانت أقل من 01% عام 0781.. فإذا بها تقفز إلى (44%) عام 0891.. وإذا بها، وفي ظل الدعوة لتحجيم دور الدولة، تقفز عام 5991 لتحتل (05%) من الناتج.
والمفاجأة الثانية أنه بينما كانت سيطرة الدولة على الإنفاق تتزايد في الثمانينيات والتسعينيات في الدول الصناعية، كان العكس قائما في الدول النامية التي ارتفع فيها حجم الانفاق الحكومي إلى (13%) من الناتج المحلي الإجمالي عام (58).. فإذا به يتراجع إلى (92%) في التسعينيات!.
التطور إذن عكس ما نظن، وثقل الدولة في الاقتصادات الكبرى أكبر مما نعتقد.. ومع ذلك فإن الدعوة لإعادة النظر في دور الدولة والذي بدأ شرقا وغربا.. وبدرجة أكبر في دول الجنوب التي شهدت تجارب التخطيط المركزي.. هذه الدعوة قائمة وتدعو للتفكير.
أي دور تلعبه الدولة، وأي دور يلعبه السوق؟.. والسؤال قديم طرحه مفكرو السياسة وفلاسفتها. اتفق كونفوشيوس وميكيافيللي وابن خلدون حول الحد الأدنى لما ينبغي أن تقوم به الدولة، إنها توفر السلع والخدمات العامة الأساسية، وتتولى تحديد استخدامات الموارد العامة. من هنا فمنوط بها وظيفة الأمن الداخلي والخارجي، ومنوط بها وظيفة إقرار القانون ليكون الناس سواء.. هي التي تصدر التشريعات، والحكومة هي القائمة على التطبيق أو القضاء يفصل بين الناس.. وكل ذلك حدا أدنى ونقطة اتفاق.. ولكن وحين جاء (التجاريون) في القرن السابع عشر تحدثوا عن دور أساسي للدولة في التنمية ودفع عجلة الاقتصاد.. وتطورت التصورات سواء من فلاسفة الاقتصاد الحر أو الاقتصاد الاشتراكي، ومع تطور هذه التصورات تطور حجم الحكومة، وكان جزء كبير من هذا التطور فيما بين عامي (0691 ـ 5991)، طبقا لما جاء في تقرير البنك الدولي؟.
الآن.. ماذا ينبغي أن تفعله الدولة، .. ماذا يبقى للحكومات إذا كانت المناداة بأن يتولى القطاع الخاص كل شيء، بما فيها أحيانا وظائف الأمن والقضاء؟.
السؤال جوهري، وتقرير البنك الدولي الذي ينحاز لنظام السوق يرى أن الفيصل هو التوفيق بين الدور والقدرة، الناس تتوقع الكثير من الدولة.. واستقصاءات الرأي في أوربا الغربية التي تطبق نظام السوق تقول إن الشعوب تتطلب فاعلية أكثر للحكومات وحدا أدنى تقوم به الدولة في مجال الخدمات مثل الصحة والتعليم وتحسين حال الفقراء والضعفاء في المجتمع. إنهم يريدون من الدولة أن تكون (حاضرة)!.
وتقول دراسة البنك الدولي: لكن التوفيق بين دور نتفق عليه.. وقد تستطيع أن توفرها الدولة.. ذلك هو المحك.. وحين تتسع الهوة بين دور تنشده وقدرة تفتقد لها تغيب المصداقية.. بل وتهوى الدول.. كما حدث في الصومال وغيرها.
التقرير دعوة لإعادة التفكير.. والأرقام كثيرة الحيرة، فالتدخل يزداد شمالا.. لكن الدعوة لإلغاء تدخل الدولة أكثر نشاطا في الجنوب!.