لا يزال الشعر العربي
المعاصر يشق طريقه مدفوعا برغبة عارمة لتجاوز كل ما هو جاهز ونمطي، لذا فهو يحاول
أن يوسع آفاقه بتوظيف الأسطورة والرمز والتراث. فما هي الأسباب الكامنة وراء توظيف
الأسطورة، وما هي مشاكل هذا التوظيف بكل ما فيه من رموز ودلالات؟
لقد وردت الأسطورة في
"فن الشعر" لأرسطو، بمعنى العقدة، والبناء القصصي، والحكاية على لسان
الحيوانات، وكان يعتبرها نقيضا للعقل "Logos". وقد اكتسب مصطلح الأسطورة معنى سلبيا في القرنين السابع
عشر والثامن عشر، حيث كان ينظر إلى الأسطورة على أنها خيال، أو مجرد "حكاية
غير حقيقية" غير أن الباحثين المعاصرين أعادوا الاعتبار إلى الأسطورة،
وتعاملوا معها كما لو أنها حقيقة أو معادل للحقيقة ذات قيمة دالة وتمنح معنى
للوجود.
معاني الأسطورة
وقد تتعدد معاني الأسطورة بحسب الحقل
المعرفي أو الفني الذي تستخدم فيه، لهذا نجدها تأخذ أبعاداً متعددة للباحث الواحد،
إذ من الصعب إيجاد تعريف للأسطورة يكون مقبولا لدى كل العلماء ويكون في الوقت نفسه
سهل البلوغ بالنسبة لغير المختصين. ومن جهة أخرى هل بالإمكان إيجاد تعريف واحد
قادر على تغطية كل أصناف وكل وظائف الأساطير في المجتمعات العتيقة والتقليدية؟ إن
الأسطورة واقع ثقافي جد معقد، كما أنه يمكن أن يتناول ويؤول من منظورات متعددة
ومتباينة.
غير أن هذه الصعوبة لا تمنعنا من إعطاء
تعريف مختصر للأسطورة، فقد تحكي قصة مقدسة تروي وقائع وقعت في الزمن البعيد، إنها
قصة خلق أو سفر تكوين يعالج أصول العالم، وكل ما له علاقة بنشأة الكون وخلق
الإنسان وأصل الموت، لهذا كانت شخصيات الأسطورة كائنات فوق طبيعية، كائنات إلهية
خارقة.
فالأسطورة - إذن- ليست مجرد شكل من أشكال
الفلكلور أو حكايات زائفة، بل هي تركيبة حددت ابستيمولوجيا معرفية تنطوي على
مفاهيم ومعتقدات حضارية.
أما الأسطورة بالمعنى الفني الأدبي فهي
"منجز روحي إنساني تمكنت الإنسانية عن طريقه من خلق عقول. شاعرية خيالية
موهوبة سليمة لم يفسدها تيار الفحص العلمي ولا العقلية التحليلية".
وبفضل ما تتمتع به الأسطورة من عمق إنساني
وأبعاد جمالية كانت مصدراً لإغناء تجربة الشعر العربي المعاصر عبر توظيف رموزها في
الشعر، من أجل تكثيف الميكانزمات الشعرية الداخلية، وتفجير طاقات النص الإيحائية
بشكل أقوى ودال، وكما يؤكد الدكتور أحمد الطريسي أعراب، فإن مستوى الصورة، الرؤيا
الذي هو أرقى مقامات ومستويات القول الشعري، لا يصاغ المعنى فيه إلا رمزا أو
أسطورة، والشاعر حين يصل إلى هذا المستوى أو المقام من الكشف يدخل في عالم يزول
معه كل حاجز بين الشيء ونقيضه، ويمتزج الممكن بغير الممكن، والمعقول بغير المعقول.
السياب والأسطورة
ويفسر الشاعر بدر شاكر السياب ظاهرة
استخدام الشاعر المعاصر للأسطورة باندحار القيم الروحية وإمعان حضارتنا المعاصرة
في المادة وقيم الاستغلال والانتهازية، يقول: "لم تكن الحاجة إلى الرمز، إلى
الأسطورة أمس مما هي اليوم، فنحن نعيش في عالم لا شعر فيه، وأعني أن القيم التي
تسوده قيم لا شعرية، والكلمة العليا فيه للمادة لا للروح، فماذا يفعل الشاعر إذن؟
عاد إلى الأساطير، إلى الخرافات التي لا تزال تحتفظ بحرارتها لأنها ليست جزءا من
هذا العالم، عاد ليستعملها رموزاً، وليبني منها عوالم يتحدى بها منطق الذهب
والفضة".
وإن كان السياب يرى في استخدام الأسطورة
تحديا لقيم اليوم المادية لأن الأساطير لا تزال تحتفظ ببراءتها وشفافيتها، فإن
الشاعر خليل حاوي، يرى أن التكثيف والتركيز عنصران مهمان من عناصر كتابة الشعر،
ولن يتأتي ذلك للشاعر المعاصر إلا باستثمار رموز الأسطورة، لأنها تولي الشاعر
القدرة على الإشارة السريعة إلى الأحداث دون سرد أو تقرير، فتستحيل إلى رمز أو
صورة كلية تشيع في مفاصل القصيدة وأجزائها وتضمن لها صفة التماسك الحتمي والوحدة
العفوية.
إن الخطاب الشعري حين يوظف الأسطورة تنفلت
القصيدة من أهم مساوئها التقريرية والتسجيلية والأيديولوجية المباشرة، ويصبح
الواقع شبكة من الرؤى الرمزية المتعددة الأبعاد، والموغلة في أعماق النفس البشرية،
وهنا يمتزج الواقعي بالمتخيل، والحلم بالحقيقة، وتكون بذلك الأسطورة، محاولة
لتغطية البعد الظاهري للأشياء، والذهاب مباشرة إلى جوهرها ذي الشفافية المعقدة
الدلالة.
لقد كانت الأسطورة بالنسبة للشعر العربي
المعاصر أداة فنية وفكرية لتكثيف دلالة القصيدة وإعطائها أبعاداً إنسانية وجمالية،
بالإضافة إلى طاقتها الرمزية، وقدرتها على تجاوز السياق التاريخي الذي وضعت فيه
لتخلق بذاتها سياقا فكريا وجماليا جديداً، ولكن الأسطورة أحيانا تتجاوز هذا الدور
المتواضع إلى حيث تصبح منهجا أو رؤية في إدراك الواقع.
استخدام الأسطورة
وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال جوهري، وهو:
كيف يتعامل الشاعر مع الأسطورة؟
إن النص الشعري- في نظرنا- لن يتأتى له
تحقيق هذه الدلالات الجمالية والأبعاد الإيحائية التي تمنحها الأسطورة، إلا إذا
تعامل معها الشاعر من منطلق متبصر وواع يقتضي الدقة الكاملة في توظيف إمكانات
الأسطورة، والتمكن منها كمادة مرنة قابلة للتكيف والانصهار في بوتقة القصيدة، لهذا
ينبغي أن يكون التعامل مع الأسطورة نابعا من اقتناع ذاتي، ليس بوصفها تراثا جامدا،
أو حكايات تاريخية تأسرها ثنائية الزمان والمكان، بل باعتبارها شعلة إنسانية
متجددة لا ينطفئ لهيبها، ونتيجة لذلك ينبغي توظيف الأسطورة توظيفا مغايرا لظرفها
السوسيوتاريخي، وعلاقتها بالتركيبة الذهنية التي أفرزتها.
"إن أهم قضية يجب مراعاتها حينما
يتعامل الشاعر مع الفكر الأسطوري، هي قضية الرؤية والموقف بالنسبة للزمان والمكان،
ذلك أن خلود الأساطير وقدرتها على أن تشكل موقفا فكريا وجماليا، هي قدرتها على
تغييب الزمان والمكان وإلغائهما بحيث يبدو زمان الأسطورة هو كل الأزمنة ومكانها هو
كل الأمكنة، إنه زمان عصي على التحديد" معنى هذا الكلام أن الزمان الأسطوري
هو زمان كلي وشمولي، والمكان الأسطوري من أهم سماته أنه لا يتحدد بخصائصه
الجغرافية، إنه مكان متخيل ينفتح على كل الأمكنة ليشمل أزمنة لا محدودة من الماضي
والحاضر والمستقبل.
تخوم الأسطورة والبعد الفكري
ومن مشكلات توظيف الأسطورة في القصيدة ألا
يتجاوز الشاعر تخوم البعد الفكري للأسطورة وإلا فسوف تصبح الأسطورة مجرد ملصقات
على جدار القصيدة بمعنى مجرد حلية شكلية من خارج الشعر، من باب المباهاة، وادعاء
الحداثة أو من باب الاستعراض المعرفي الثقافي، بحيث إن توظيفها بات ترفا شكليا لا
يراعي عملية استيعاب الأسطورة وفهمها في إطاريها الفني والإنساني.
وهناك مشكل آخر يتعلق بافتقاد الشاعر إلى
الرؤية الشاملة لدلالة الأسطورة وأبعادها الرمزية، كأن يحشد الكثير من الرموز ذات
الدلالات المتناقضة، معتقدا أن القصيدة كلما امتلأت بالرموز والأسماء الأسطورية
اكتسبت أبعادا جمالية وفكرية. إن هذا التوظيف غير الواعي لأبعاد الأسطورة يفرز
نصوصا تسيء للأسطورة والشعر لأنها لم توظف الرمز الأسطوري توظيفا إبداعيا يتجاوز
مدلول الإطار القاموسي والتاريخي للأسطورة، ويبدو توظيفها في بعض النصوص الشعرية
يفتقر إلى النضج والفهم الواعي لمدلول الرمز الأسطوري وإيحاءاته وبعده الإنساني
والحضاري.
إن توظيف الأسطورة في النص الشعري، لا
يعني فقط العودة إلى التراث الإنساني والبحث فيه عن الأساطير، ومحاولة توظيفها كما
هي في الماضي الإنساني دون أدنى مجهود، يمنحها سمات إبداعية، بل إن هذا التوظيف
للأبعاد الرمزية الأسطورية - قبل كل شيء- هو عملية إبداعية خلاقة تشكل بنيات
جمالية جديدة وتضع الأسطورة في إطارها الفني والحضاري بمنأى عن إطارها التاريخي
والمرجعي، حتى لا يكون هذا التوظيف مجرد إعادة للماضي الإنساني، أو سياحة مجانية
في كتب التاريخ البشري، تخلو من أي سمة إبداعية.
إن عملية استثمار الأسطورة في مستواها
الجمالي والفكري اختراق للمستقبل وتواصل إنساني يلغي كل الحدود والأيديولوجيات
التي ترفع الحواجز بين بني الإنسان، إنها محاولة جريئة لخلق آفاق شعرية جديدة
قادرة على استيعاب مستجدات الحياة وتناقضاتها.
ويذهب الناقد، الدكتور سعد الدين كليب إلى
أنه يمكن القول بأن الأسطورة في مستوى من مستوياتها شكل رمزي فيه التعامل مع
العالم، ثم يقرر أنه ثمة عدة مستويات في التعامل مع الرموز الأسطورية والتاريخية،
وهي المستوى التراكمي والاستعاري والمفهومي والمستوى المحوري.
ومن البدهي أن هذه المستويات متداخلة
والفرق الأساسي فيما بينها يكمن في غائية الرمز داخل النص أي في وظيفته الجمالية
والفكرية.
إرسال تعليق