وفي هذا المقال لا أحدثك
عن أنواع الرسائل، والطرق المختلفة التي اعتمدها الأدباء في كتابة رسائلهم، وإن
كنت مع القائلين إن الرسائل فن قائم بذاته بين فنون الأدب، لكني أريد أن أقف بك
قليلا عند رسالتين اتفق لي أن قرأتهما منذ وقت طويل، وظللت لسنوات أفكر في أن أكتب
شيئا عنهما. الرسالة الأولى هي رسالة أبي حيان التوحيدي لأبي الوفا المهندس،
والثانية هي رسالة أبي العلاء المعري إلى أهل المعرة.
غاية القهر
يقف تاريخ الأدب حزينا دائما عند أبي حيان
علي بن محمد بن العباس التوحيدي المشهور بأبي حيان التوحيدي. ومصدر الحزن هو أن
هذا الكاتب الفيلسوف، الأديب العظيم عاش عيشة ضنكا دائما، ومات منبوذا بعد أن أحرق
بنفسه كل كتبه، وكادت كتب التاريخ الأدبي تهمله إهمالا. لقد اختلف المؤرخون في
ولادته وموته، لكنهم اتفقوا جميعا أنه عاش في القرن الرابع الهجري، ولقد حدد
المرحوم أحمد أمين حياته وموته بين سنتي 312 هـ، 400 هـ، وبين الميلاد والموت عاش
التوحيدي حياة صعبة مارس فيها مهنا مختلفة حقيرة كلها لا تتناسب مع قدراته العلمية
والثقافية. وعاش وحيدا لم يتزوج، ولا عرف نعمة الاستقرار، أو كما قال عن نفسه:
"فقد الولد النجيب، والصديق الحبيب القريب، وصار غريبا في وطنه، معتادا
الصمت، ملازما للحيرة، متحملا للأذى يائسا من جميع ما يرى"، أو كما قال
أيضاً: "فقدت كل صاحب، والله لربما صليت في المسجد فلا أرى إلى جنبي من يصلي
معي، فإن اتفق، فبقال أو عصار أو قصاب. وقد أمسيت غريب الحال، غريب النحلة، غريب
الخلق، مستأنسا بالوحشة، قانعا بالوحدة".
ولقد كان مصدر غربته هو القرن الرابع
الهجري نفسه الذي كان عصر اضطراب سياسي كبير في الدولة العباسية، اضطراب أشاعته
طبقة القادة الترك، وطبقة الوزراء، وطبقة الحريم، وكثرت فيه مؤامرات البلاط،
وانتشرت فيه الفتن والمجاعات، وتبخرت رهبة الخلافة، واستوى الأمراء على البلاد
واستقلوا ببعضها، حتى لم يبق للخليفة العباسي سوى بغداد وما يلحق بها. وفي وسط هذا
المناخ حاول التوحيدي مثل غيره الاقتراب من بعض الأمراء، إلا أنه فشل دائما في
الحفاظ على صلة دائمة طيبة بأي ممن لحق بهم، مثل الوزير المهلبي أبي محمد الحسن بن
محمد الذي كان مقصد الأدباء، ولكنه كان شيعيا متزمتا، في الوقت الذي كان فيه أبو
حيان مفكراً حراً يميل إلى الاعتزال - أي مذهب المعتزلة - فنفاه الوزير المذكور من
بغداد. كذلك اتصل بابن العميد، الوزير البويهي في الدولة البويهية في فارس، لكن نزق
ابن العميد الشاب لم يرق لأبي حيان، وحدث الشيء نفسه مع الصاحب بن عباد، الوزير
البويهي أيضا الذي خلف ابن العميد بعد مقتله، وكان بينه وبين ابن العميد عداوة
قديمة. في هذه المرة لم يستطع التوحيدي مصانعة ابن عباد بالنفاق كما يفعل من حوله
من الملتحقين ببلاط الوزير من الأدباء، بل ومدح مرة ابن العميد أمام ابن عباد،
برغم ما كان من خلاف بينهما. لقد ترك أبو حيان الصاحب بن عباد وعاد إلى بغداد دون
أن يعطيه ابن عباد درهما واحدا على ثلاث سنوات قضاها عنده، وكتب ابن حيان فيما بعد
رسالة في "مثالب الوزيرين". بعد ذلك قام أبوالوفا المهندس صديق أبي
حيان، والذي اكتسب لقبه من صناعته، قام بالتقريب بين أبي حيان والوزير أبي عبدالله
العارض، فأصبح أبو حيان من سمار الوزير وندمائه لأربعين ليلة، طلب منه بعدها
أبوالوفا المهندس أن يدونها له في كتاب، وهدده إن لم يفعل ذلك بقطع ما بينه وبين الوزير،
فكتب أبوحيان تحت الخوف والقهر كتابا من أجمل الكتب العربية هو " الإمتاع
والمؤانسة ". وفي نهاية الكتاب الرسالة التي أردت أن أحدثك عنها والتي مهدت
لها كل هذا التمهيد والتي أنقل إليك بعض فقراتها:
" أيها الشيخ، سلمك الله بالصنع
الجميل، وحقق لك وفيك وبك غاية المأمول، وأنا أسأل الله أن يحفظ عنايتك علي، كسابق
اهتمامك بأمري، حتى أملك بهما ما وعدتنيه من تكرمة هذا الوزير الذي قد أشبع كل
جائع، وكسا كل عار، وتألف كل شارد، وأحسن إلى كل مسيء. ولم يبق في هذه الجماعة على
فقره وبؤسه غيري، مع خدمتي السالفة والآنفة، وبذلي كل مجهود، ونسخي كل عويص،
وقيامي بكل صعب، والأمور مقدرة، والحظوظ أقسام، والكدح لا يأتي بغير ما في اللوح
" لكن الظروف كانت أصعب مما يحتمل فهو لا يلبث أن يكشف عنها بالتوسل قائلاً:
"خلصني أيها الرجل من التكفف، انقذني
من لبس الفقر، استرني بالإحسان، اعتبدني بالشكر، اكفني مئونة الغداء والعشاء. إلى
متى الكسيرة اليابسة، والبقيلة الذاوية، والقميص المرقع. أيها السيد ارع زمام
الملح بيني وبينك، وتذكر العهد في صحبتي، ودعني من التعليل الذي لا مرد له،
والتسويف الذي لا آخر معه. ذكر الوزير أمري، وكرر على أذنه ذكرى، وابعثه على
الإحسان إلي". ويظل أبو حيان بعد ذلك يعدد مناقب الوزير ومناقب صديقه أبي
الوفا المهندس ثم ينتهي في يأس قائلاً : "أنا الجار القديم، والعبد الشاكر،
لكنك مقبل كالمعرض ومقدم كالمؤخر، وموقد كالمخمد، تدنيني إلى حظي بشمالك، وتجذبني
عن نيله بيمينك، وتغديني بوعد كالعسل، وتعشيني بيأس كالحنظل".
رسالة غريبة من كاتب كبير اتسم بالصراحة
الزائدة، لكنه أيضا رضي في وقت ما أن يلتحق بالساسة وفقا لشروطهم، دون أن يعرف
قواعد لعبتهم، لذلك لم يفز منهم حتى بالإياب. اشتد القهر بأبي حيان فأحرق كتبه بعد
أن قال عنها في رسالة أخرى إلى القاضي علي بن محمد: "اعلم أن هذه الكتب حوت
من أصناف العلم سر وعلانيته، فأما ما كان سرا فلم أجد له من يتحلى بحقيقته راغباً،
وأما ما كان علانية فلم أصب من يحرص عليه طالبا، على أني جمعت أكثرها للناس ولطلبي
المثالة منهم ولعقد الرياسة بينهم ولمد الجاه عندهم فحرقت ذلك كله. وكيف أتركها
لأناس جاورتهم عشرين سنة فما صح لي من أحدهم وداد، ولقد اضطررت بينهم - بعد الشهرة
والمعرفة - في أوقات كثيرة إلى أكل الخضر في الصحراء وإلى التكفف الفاضح عند
الخاصة والعامة وإلى بيع الدين والمروءة وإلى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق، وإلى
مالا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم ويطرح في قلب صاحبه الألم...".
لعل هذا الجزء من رسالة التوحيدي يكشف عن
نصيبه هو أيضا في الخطأ، ولكن النصيب الأكبر كان للعصر نفسه الذي دفع هذا العالم
إلى الجوع والعري الدائم، ولنا أن نتصور كيف استطاع أبو حيان أن يشارف التسعين من
العمر بعد كل هذا الشقاء. لقد انتقم من العصر كله حين أحرق كتبه، وكان حرق الكتب
أيضا شكلاً من أشكال الانتحار.
لكن الرسالة الثانية لأبي العلاء المعري
تقدم لنا نموذجا مختلفا، ولونا آخر من ألوان الاحتجاج الحقيقي، نوعا آخر من
الاغتراب.
اغتراب إرادي
رسالة أبي العلاء التي أقصدها هنا هي
رسالته إلى أهل المعرة عند خروجه الحزين من بغداد. رسالة غير مسبوقة ولا ملحوقة في
تاريخ الأدب والأدباء. مجمل الرسالة أنه أزمع العودة إلى المعرة، والدخول إلى بيته
دخولا لا خروج بعده إلى الأبد. والأهم هو أنه لا يريد لأحد من أهل المعرة أن يخرج
لاستقباله. يا إلهي، ما الذي دفع أبا العلاء إلى ذلك حقا؟ لا بد أن للعمى نصيبا في
ذلك، ولموت أبيه في صباه مما أورثه الحزن، ورحلته إلى بغداد، ثم موت أمه وهو في
طريق العودة إلى المعرة موطنه الذي اشتهر به. ونستطيع أن نضيف إلى ذلك ما أجمله طه
حسين عنه من أنه " خلق أنسي الولادة وحشي الغريزة ".
لقد كان أبو العلاء يدرك سجن العمى، لكنه
كان يدرك سجنا آخر أقسى هو سجن الروح في الجسد، وإذا أضفنا إلى ذلك معرفة أبي
العلاء بعصره، وهو نفس القرن الرابع، والنصف الأول من القرن الخامس الذي ازدادت
فيه أحوال الخلافة العباسية سوءا، عرفنا كيف لم يسع أبوالعلاء سعي التوحيدي إلى أي
من الأمراء. سعى إلى سجن ثالث هو البيت. لقد قرر أبو العلاء مواجهة اغتراب العصر
باغتراب إرادي ومنذ وقت مبكر. لقد عاش أبو العلاء بين عامي 363- 449 هجرية قضى
منها حوالي خمسين سنة في بيته. تقول الرسالة:
"بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب
إلى السكن المقيم بالمعرة، شملهم الله بالسعادة، من أحمد بن عبد الله بن سليمان خص
به من عرفه وداناه. سلم الله الجماعة ولا أسلمها، ولم شعثها ولا آلمها، أما الآن
فهذه مناجاتي إياهم منصرفي عن العراق مجتمع أهل الجدل، وموطن بقية السلف، بعد أن
قضيت الحداثة فانقضت، وودعت الشبيبة فمضت، وحلبت الدهر أشطره، وجربت خيره وشر،
فوجدت أوفق ما أصنعه في أيام الحياة، عزلة تجعلني من الناس كبارح الأروى من سائح
النعام، وما آلوت نصيحة لنفسي، ولا قصرت في اجتذاب المنفعة إلى حيزي، فأجمعت على ذلك،
واستخرت الله بعد جلائه على نفر يوثق بخصائلهم فكلهم رآه حزما، وعده إذا تم
رشدا".
كان أبوالعلاء في حوالي الأربعين أو يزيد
عليها قليلا حين كتب هذا الكلام، ورأى أنه بعد أن بلغ هذه السن يكون قد عرف الكثير
من أحوال الدنيا بما يكفي أن يعتزل عنها. والحقيقة أن الأمر يتجاوز المعرفة بالدهر
إلى موقف أعمق، إلى موقف فلسفي وروحي من الدهر نفسه، واعتزال أبي العلاء هو هذا
الموقف.
لكن في هذه الفقرة من الرسالة عبارة شديدة
الخطر هي " واستخرت الله فيه بعد جلائه على نفر يوثق بخصائلهم فكلهم رآه
حزما، وعده إذا تم رشداً".
إذن استشار أبو العلاء عدداً من الناس ممن
يثق في سلوكهم ورأيهم فوافقوه بل ورأوا في الاعتزال حزما وعقلا. وبالطبع لا يمكن
أن يوافقه هؤلاء العقلاء لأنه أعمى أو لحزنه على موت أمه أو لعودته من بغداد أو
لأنه يرى روحه تعيش في سجن جسده، ولكن لا بد وافقوه لأنهم رأوا الدهر كما رآه هو،
عصراً شديد الوطأة على الأديب الحر يدفع دفعا إلى الاغتراب. ومن ثم أراد أبوالعلاء
أن يواجهه بنفس السلاح، بل ويعلو ويتفوق على العصر، يعتزله نهائياً. وتعود الرسالة
إلى مزيد من تفسير الأمر، فيقول أبو العلاء:
"وهو أمر ليس بنتيج الساعة، ولا ربيب
السهر، ولكنه غذي الحقب المتقادمة وسليل الفكر الطويل".
وهنا يعلن لأهل معرة النعمان رغبته في ألا
يلقاه أو يقابله أحد حتى إذا لم يخرج إليه فلا يتعرض للوم. ولا يذكر أحد من
المؤرخين ما إذا كان أهل المعرة قد خرجوا لاستقباله أم لا.
ولكن المؤكد أن أبا العلاء بعد أن دخل
بيته لم يستطع منع الناس من زيارته، فكان له تلاميذ يستمعون إليه ومريدون، لكنه لم
يخرج من البيت إلى شأن من شئون الدنيا غير ثلاث مرات، كل قيل، كان في خروجه فيها
مضطراً عبر خمس وأربعين سنة.
لقد عاش التوحيدي وأبوالعلاء عصراً
واحداً، وشهد أبوالعلاء النصف الأول من القرن الخامس الهجري، أي شاهد مزيداً من
التفسخ للدولة العباسية، ورسالته ورسالة التوحيدي وجهان لعملة واحدة هي العلاقة
بين المثقف وعصره. المثقف الحقيقي في عصر أهم ما يميزه مؤامرات الحكام وأطلع
الجيران. أبو حيان هو صورة المثقف الذي لا يرى له طريقا خارج المؤسسة الحاكمة
فكانت نهايته الفاجعة حين اكتشف أن هذا الطريق مفتوح لعديمي الموهبة فقط، أما
الموهوبون فلا يستطيعون التعايش مع جو النفاق السائد، ينتحرون. وأبوالعلاء هو صورة
المثقف الجبار الذي يحدد من البداية موضعه فوق العصر والحكم وحكامه، فيعتزل الجميع
اعتزالا مثمرا لا اعتزال المنفصل عن العصر، إنما اعتزال الغريب الذي وهو يدرك أن
جسمه سجن لروحه، يدرك أن العصر سجن لطاقته وقدراته العقلية والأدبية، ومن ثم وجب
الاغتراب وبالإرادة.
ترى هل وعى أبو العلاء درس التوحيدي؟ ربما
ولا بد أنه قد بلغته أخباره أو قابله في بغداد. على أي حال لقد كان وعي أبي العلاء
بالعصر أكثر، وفي وقت مبكر، ولقد قدم أبو العلاء درسا جباراً عن الإرادة الإنسانية
لو وعاه الأدباء في العصور اللاحقة لما ظلوا تحت رحمة السلطان ولما تمكن منهم حكم
ولا حكام.
أبو حيان وأبو العلاء يصلحان إذن نموذجين
لشكل العلاقة بين المثقف وعصره، ونموذج أبي حيان خالد ومتجدد دائما، لكن نموذج
المعري هو ما نحتاج إليه ولا نجده في عصرنا هذا، إنه نموذج من نوع خاص تتجلى فيه
الإرادة الإنسانية في جوهرها النقي العميق. على أن المثير في الرجلين حقا هو غزارة
إنتاجهما رغم ما مرا به من شرور وآلام. وإذا كان اعتزال أبي العلاء ساعده على
غزارة وعمق الإنتاج فما بال أبي حيان لا تعطل آلامه واشتراكه الفعلي في الحياة
السياسية والتحاقه بالأمراء، لا تعطل غزارة إنتاجه. لقد كان أبوحيان موهبة جبارة
أرادت أن تخضع العصر لها فانكسرت وأنتصر العصر. وكان أبوالعلاء موهبة جبارة أيضاً
لكنه عرف مبكراً أن أفضل طريقة للنزال مع العصر هو إعلان الاغتراب عنه.
إرسال تعليق