-->

الضفدع صاحب النق الأدبي

دفعني خيالي الريفي أن أتصور أن وجود الضفدع مرتبط بالريف، وبالجداول، وبالماء العذب، وبالمستنقعات، واعتقدت فترة أن نقيق الضفادع جزء من الجو الريفي، غير أن الأمور تسير في غير ما تخيلت وما اعتقدت.

لا يوجد موقع يخلو من ضفدع، يطل عليك من المربع التليفزيوني الملون يقرأ نشرة الأخبار، وأحيانا تكون ضفدعة ذات دفقات صوتية معهودة توضح الطريقة التي يمكن بها تنظيم المطبخ الحديث، ولا تستبعد أن تكون للضفادع خبرة في الاهتمام بالنقد الأدبي. إن نقاد الأدب يمارسون (النق) جنبا إلى ممارسة الضفادع للنقيق، فالنق ثلثا النقد، ونعجز كثيرا عن الفصل بينهما، والعلاقة المعاصرة بين النق والنقد عضوية جدا، فالضفدع ما يكاد يخرج من طور أبي ذنيبة، ويتلاشى ذيله- أو ذنبه، وتتسع حنجرته، حتى يمتلك لحنا صوتيا محددا، قد يكون مغايرا لغيره من النقاد، لكنه لا يغير ولا يعدل في لحنه أبدا، لا يبدله ولا يطوره، قد يتوسع فيه إذا ما اتسعت المستنقعات والندوات والمؤتمرات، وقد يضيف امتدادا أو يبتر جزءا، لكنه يظل محافظا على اتساعه وعمقه ومجموع ذبذباته، ولو في الحالات التي يتراجع فيها النقد أمام لحن الرغبة في التكاثر.
أجمل ما في الضفادع قدرتها على أحداث الهارموني في النقيق الجماعي المتعدد الدرجات الصوتية، وهو ما يذكرك فورا بالفيلم الشهير الذي صاغه والت ديزني: هذا الذي يقود فيه ضفدع رصين أوركسترا عازفي الضفادع الموزعة على آكام وجزيرات مستنقع أخضر ظليل، مع المشاركة الصوتية من جمع حيوانات وطيور الموقع: غربان وحدات وقطط ودواجن وسناجيب (جمع سنجاب)، ومشهد الضفدع القائد الممسك بعصا القيادة- مع ارتفاع وانخفاض صدره تبعا لتطور اللحن - الذي تتحرك أو تنفجر الأصوات تحت إشاراته، يشابه فان كرايان أشهر قادة الأوركسترا، الذي رحل عن عالمنا منذ شهور.
وأخطر أعداء الضفادع: الثعابين ثم الكلاب، وفي أقطار أوربا تقوم جمعيات حماية الحيوان والمحافظة على البيئة برعاية الضفادع من كوارث ردم المستنقعات وإنشاء الطرق وإقامة المباني في الخلاء، حتى أنها ترتب للضفادع من يحميها حتى أثناء هجرتها المنظمة وعبورها الطرق وهذه الحماية تشمل جميع أنواع الضفادع، المعهود منها والغريب، كضفدع الشجر، والضفدع الثور، والعلجوم- الذي هو نوع من الضفادع ذات الجلد الجاف- مع أن اسمه الأصلي ضفدع الطين. وللضفادع مزارع في أوربا وفي بعض المناطق الأمريكية والإفريقية، لها اتصالات بالمطاعم الشهيرة حيث يستحب لحمها، غير أننا في البلاد العربية لا نستسيغ ذلك- على الأقل حتى الآن، مع أن بعض مزارع الضفادع أنشئت في مصر في الحقب الأخيرة لمن يرى استثمارها في التصدير، وفي تدبير احتياجات معامل المدارس والمعاهد والكليات والمؤسسات العلمية، لا سيما أنه كائن يمكن الاحتفاظ به دون وجل.
والضفدع حيوان برمائي مسالم- وإن كان بعضه ساما- يوجد بالمياه العذبة والأحراش والأحراج، أملس الجلد أخضر اللون- في الغالب- أو بني، وهناك الضفدع، الأبقع ذو الإفرازات المهيجة أو السامة، ولا يعيش عندنا، وينبت معظم أنواعه من البيض المهجور في الطين، وتضع الأنثى البيض في باكورة الربيع- وقت أوج النشاط الصوتي للضفدع الذكر أيضا، وتعيش الضفادع على الحشرات والديدان عن طريق لسانها اللزج الطويل المشقوق (القناص).
والضفادع تفرح بالمطر، تنصت أولا إلى بداية سقوطه ، وحين تطمئن إلى أن المطر ليس حيوانا مداهما، يبدأ واحد من أكبر الذكور في إطلاق (الميلودي) الخاص به، وفي العادة يكون أجش منخفض النبرات، ويتجاوب معه ضفدع آخر، وعادة ما يكون من مكان بعيد، أو في أقصى أبعاد البركة أو المستنقع، ثم تبدأ الأصوات الأخرى في العزف قوية متداخلة، أكاد أزعم أن بعضها ينتظر فرجة اللحن كي يبدع فيه، وبعد أقل من دقيقتين: تكون الأوركسترا قد استكملت النوتة- والهارموني أيضا.
وللضفدع تراث (إنساني) قديم، دمه يستخدم في قاع كوب الحجامة كي يختلط بدم رأس المحجوم ويسهل إسالته وسحبه تحت الضغط القوي الذي يحدثه الكوب الفارغ من الهواء، كما أن الضفادع المذبوحة حين يكون القمر بدراً تفيد المرأة العقيم، لو خطت عليها عددا لا أعرفه من الخطوات، وكتابة العمل وربطه في صدر ضفدع نشط يقلب حظ الشخص المقصود وقد يودي به، والضفدع الأنثى لو أتيحت لها فرصة التسلل إلى بيت الحبيبة فسوف تعمل على تطمئن عطفها على المحبوب، والبعض يزعم أن ذبح ضفدعة أو ضفدع تحت حنجرة متلعثم أو ذي تهتهة فإن لسانه المربوط أو المضطرب ينفك ، أما أخطر ما يمكن للضفدعة أن تفعله، فإنها إن قفزت من مستقرها المائي قفزات أوصلتها إلي بيت ما- فاعلم بأن الخير سوف يملأ هذا البيت، فإذا ما قطع طريقها قبل أن تصل إلى عتبة البيت، فسوف يتعرض أهلة إلى مالا نستطيع تصوره من أخطار الحريق أو الريح أو سقوط الحوائط أو الولادة المبكرة أو خسران القضايا، ويحكى أن ضفدعة سمينة تخطت طريقا واسعاً ووصلت إلى عتبة بيت ، وما كادت تقفز لتدخل حتى فوجئت بهدهد يدخل قبلها، وكلاهما رمز للفأل الحسن، فقيل إن صاحبة البيت لم تتحمل المشهد العظيم فوقعت من طولها. وهي رواية مقصود بها السخرية بأفكار العامة لأن الهدهد ليس في سذاجة الضفدعة، ولا يمكن أبداً أن يدخل بيتا تقف فيه امرأة، وهو أمر يصعب تجريبه الآن بعد أن تكعبت المساكن وأصبحت شققا، ليصبح الفأل الحسن- في الضفادع- مستحيلاً.