ما زالت أوراق عميد
الأدب العربي طه حسين في حاجة إلى إعادة اكتشاف. فمنذ وفاته في أكتوبر عام 1973 لم
تهتم جهة ثقافية بجمع هذه الأوراق المتناثرة التي شملت عشرات التقارير والوثائق
والمقالات النقدية والمتابعات. والنتيجة أن هناك جانبا مهما من تراثنا الثقافي والأدبي
مهدد بالضياع.
هاهي بعض من هذه الوثائق
التي توضح أسلوب طه حسين وتكشف عن بصيرته - لا بصره - النفاذة في كثير من القضايا.
وهي لا تفعل أكثر من أن تكشف الغطاء عن كم كبير من الأوراق المختلفة كتبها طه حسين
في مختلف مراحل حياته الأدبية والوظيفية لعلها بذلك تكون دافعا للقيام بعمل علمي
جاد للحفاظ على هذه الثروة الثقافية قبل أن تتبدد.
آثار سوريا وفلسطين متى تقوم
باكتشاف آثارنا؟
لم يكن طه حسين، منذ عودته من البعثة
الفرنسية سنة 1919، مجرد أستاذ في الجامعة المصرية، تقتصر حياته على إلقاء
المحاضرات على الطلبة، ولكنه كان كاتبا ومفكرا إنسانيا تملأ الدنيا عقله، يشارك من
داخل الجامعة ومن خارجها في نهضة بلاده، وفي إقامة الجسور مع الدول العربية
والأجنبية، وفتح الأبواب والنوافذ على مصاريعها للتبادل الحر مع كل الثقافات.
وكان منهج طه حسين في أداء هذه الرسالة مخاطبة
القاعدة العريضة من القراء والمثقفين من خلال الصحافة والإذاعة والكتب، ومخاطبة
النخبة الصغيرة في المؤتمرات العلمية والمجامع المتخصصة، في مصر وأنحاء العالم.
وسواء كان الخطاب موجها للقاعدة أو
النخبة، فإن المعاني التي عبر عنها طه حسين، في مضمونها وغايتها، كانت واحدة.
ويمكن إجمالها في زعزعة المسلمات التقليدية، وفي النفور من العزلة فيما يتصل
بالعلم والمعرفة والإنتاج، وفي النظر إلى الآداب والفنون كغذاء للعقول والقلوب. لا
تتعارض فيها المعرفة من أجل المعرفة، مع المعرفة من أجل الحياة والمجتمع. ولا تأتي
العناية بالاتجاهات الأدبية والفكرية الحديثة على حساب العناية بالتراث الكلاسيكي،
لأنه لا جديد دون دراسة القديم.
وتعد المؤتمرات والمهرجانات التي شارك
فيها طه حسين أحد الأنشطة الخصبة التي ساهم بها في وضع الأسس الجديدة لنهضة بلاده،
وفي غرس الكثير من الأفكار والمعارف والقيم التي ترتفع بها إلى مستوى العصر، وفي
بيان حق الثقافة العربية وحق الإنسانية كلها في التقدم والرقي.
ولعل أكثر ما يلفت النظر في تقريره عن
مؤتمر الآثار الدولي في سوريا وفلسطين ( 1926 )، احتفال المؤتمر بزيارة الآثار
نفسها، وتفقد مواقع التنقيب، أكثر من احتفاله بالمحاضرات والأبحاث النظرية، ودعوته
للعلماء والشباب في الأقطار العربية إلى الاتصال بالحركة العلمية في أوربا
وأمريكا، وفيما يلي نص التقرير كما أملاه طه حسين بعد عودته إلى وطنه:
تقرير مرفوع إلى حضرة صاحب العزة مدير
الجامعة المصرية
من الدكتور طه حسين الأستاذ بكلية الآداب
والمنتدب لحضور
مؤتمر الآثار الدولي الذي انعقد في سوريا
وفلسطين
حضرة صاحب العزة الأستاذ الجليل مدير
الجامعة المصرية:
أتشرف بأن أرفع إلى عزتكم طائفة من
الملاحظات انتهيت إليها أثناء قيامي بالمهمة التي كلفني إياها مجلس الجامعة حين
تفضل فعهد إلى تمثيل جامعتنا الناشئة في مؤتمر الآثار الدولي الذي انعقد في سوريا
وفلسطين من يوم 8 إلى يوم 23 إبريل 1926.
الواقع أن هذا المؤتمر لم يكن مؤتمر علم
نظري بمعنى أن الغرض الأساسي منه لم يكن إلقاء المحاضرات أو تقديم المباحث العلمية
وإنما كان مؤتمرا علميا يقصد به إلى الناحية العملية أكثر من أي شيء آخر فلم يخصص
للمحاضرات والمباحث العلمية إلا ساعات معدودة ولم يشترك في هذه المحاضرات والمباحث
من العلماء الذين حضروا المؤتمر إلا نفر قليل جدا وأنفق الوقت كله في زيارة الآثار
وأماكن التنقيب عنها والمعاهد العلمية التي تعني بها عناية. وأكبر الظن عندي أن
هذا المؤتمر لم يكن يقصد به إلى العلم وحده وإنما أراد الانتداب الفرنسي
والإنجليزي في سوريا وفلسطين أن تزور هذه البلاد طائفة من العلماء والكتاب الذين
يمثلون الأمم المختلفة ليروا ما لهذه البلاد من خطر علمي تاريخي ومن قيمة اقتصادية
وليشهدوا ما يمكن أن يكون قد وصل إليه الانتداب من الفوز السياسي في هذه البلاد،
وليكون هذا كله نوعا من الإعلان يحمل الناس على أن يفدوا على هذه البلاد وينشئوا
الصلات المختلفة بينهم وبينها.
احسسنا هذا في كل شيء حتى الزيارات
العلمية الخاصة التي كان ينبغي الا تتناول الا البحث العلمي الصرف ومع هذا فقد نجح
هذا المؤتمر نجاحا عظيما من هذه الوجهة العلمية الخالصة فأصبح من الأشياء التي لا
تقبل الشك أن هذا القسم من الشرق الأدنى من أعظم الأماكن التي تتصل بها آمال
الباحثين عن الآثار والتاريخ. ويكفي أن نلاحظ أن سوريا وفلسطين كانتا منذ أقدم
العصور ملتقى الحضارات المختلفة وموضوع النزاع بين الشعوب المتباينة التي سيطرت
على ما يسمونه (حوض البحر الأبيض المتوسط) وقد تركت هذا الحضارات والشعوب في سوريا
وفلسطين آثارا قيمة جدا منها ما هو ظاهر قد درس وفحص درسه ومنها ما أخذ ليظهر
ويدرس ومنها ما لأبد من أن يظهر في وقت قريب أو بعيد لان الجهود التي يبذلها
الفرنسيون والإنجليز والأمريكيون لإكراه هذه الأرض على أن تخرج دفائنها النفيسة
أحسن نظاما من ان تضيع أو من أن يكون إنتاجها قليلا.
ونحن لا نكاد نزور ناحية من نواحي سوريا
وفلسطين يظن أنها تحتوي آثارا إلا وجدنا الفرنسيين أو الإنجليز أو الأمريكيين قد
أعدوا العدة للبحث والتنقيب ولست أريد أن اذكر هنا كل ما رأيت أو زرت ولا أن افصل
وصفه فتلك إطالة لا احتاج إليها. وإنما أريد أن ابسط في الأسطر القليلة الباقية لي
خلاصة العبارة التي يجب أن تستنبط من هذا المؤتمر بالقياس إلى المنفعة المصرية
الخالصة.
آثار مصرية
وهنا ألاحظ قبل كل شيء أن زائر الآثار في
سوريا وفلسطين لا يكاد يخطو خطوة في هذين البلدين حتى يجد الآثار المصرية ماثلة
أمامه. وهذه الآثار المصرية تمثل النفوذ المصري في الشرق الأدنى أثناء العصور
التاريخية كلها فمنها ما يمثل عصر الفراعنة ومنها ما يمثل عصر البطالسة، ومنها ما
يمثل العصور الإسلامية منذ الإسلام إلى أيام محمد علي الكبير. وحسبنا أن المؤرخين
يتحدثون بان خراج مصر في أيام عبدالملك ابن مروان قد خصص أعواما متصلة للاتفاق على
المسجد الأقصى في بيت المقدس.
الآثار المصرية المختلفة قائمة في هذه
البلاد قيامها في مصر نفسها، وإذن فدرس التاريخ المصري والحضارة المصرية على
اختلاف عصورها لا ينبغي أن يكون في مصر وحدها بل ينبغي أن يكون فيها وأن يكون في سوريا
وفي فلسطين.
فلا بد من أمرين الأول أن توفد الجامعة من
وقت إلى وقت بعوثا علمية تتألف من طلاب الآثار والتاريخ والآداب العربية وأساتذتهم
لزيارة هذه الآثار ودرسها ومهما يكن من شيء فلا بد من إحصاء ما يمكن إحصاؤه من هذه
الآثار لتستطيع الجامعة ووزارة المعارف والبيئات العلمية المختلفة في مصر) أن
توزعها توزيعا علميا يمكن من دراستها درسا منتجا تأخذ الجامعة منه بنصيب ومصلحة
الآثار بنصيب آخر ولجنة الآثار العربية بنصيب ثالث ووزارة المعارف بنصيب رابع وهلم
جرا.
وربما كان الخير كله في أن تحذو مصر حذو
فرنسا وإنجلترا وأمريكا فتنشئ لها معهدا أثريا تاريخيا في سوريا وفلسطين تشترك فيه
هذه البيئات العلمية الأربع التي ذكرتها آنفا وسواء أمكن تنفيذ هذه الفكرة أم لم
يمكن فكرامة مصر وواجب الجامعة نحو العلم يقضيان بأن نبدأ الآن في الاشتراك العملي
في العناية بهذه الآثار ودرسها على نحو قيم مفيد. وإن المصري ليخجل حقا حين يرى
النتائج العلمية القيمة التي وصلت إليها البعثات الدينية والمدنية لا سيما بعثات
الفرنسيين والأمريكيين دون أن تشعر مصر بأن في سوريا وفلسطين آثارا مصرية خليقة
بالعناية.
ولست أدع هذا الموضوع دون أن اذكر أني
علمت أن في مكتبة الجامعة الأمريكية في بيروت مجموعة رسائل سياسية رسمية تتصل
بمحمد علي الكبير وإبراهيم ويبلغ عددها نحو الخمسمائة وألف رسالة فلا ينبغي مطلقا
أن تجهل مص هذا الكنز العلمي الذي يمس تاريخها الحديث بل لا بد أن تبذل الجهود
فورا لاستنساخ هذه الرسائل كلها ونقلها بالتصوير الشمسي لتوجد في مصر وليستطيع
المصريون أن يدرسوها ويستغلوا منها ما يمكن استنباطه من الحفائر التاريخية. الأمر
الثاني اني اتصلت بالسوريين والفلسطينيين اتصالا قويا جدا أثناء هذه السياحة
القصيرة وما كنت أظن ان لمصر في هذه البلاد هذه المكانة الغريبة التي رأيتها. فأهل
هذه البلاد يؤمنون لمصر بالزعامة الأدبية والاجتماعية والسياسية ويقتدون بها في كل
شيء ويلمون بأمورها الدقيقة أكثر مما يلم بها المصريون أنفسهم ولهم في مستقبل مصر
ونفوذهـا في الشرق إيمان لا سبيل إلى زعزعته وسواء أكانو مصيبين أم مخطئين فان الواجب
الوطني والمنفعة الوطنية يلزمان مصر أن تستثمر هذا الاستعداد لمنفعتها ومنفعه
السوريين والفلسطينيين أنفسهم.
الحاجة إلى تعليم وطني
وقد لاحظت أن السوريين والفلسطينيين
ينقصهم قبل كل شيء تعليم وطني عربي، فهم مقسمون بين التعليم الفرنسي والتعليم
التركي. وإذن فيجب على مصر أن تنشر في هذه البلاد تعليمها الشرقي العربي وأن تنشئ
فيها طائفة من المدارس الثانوية تعد الشبان السوريين والفلسطينيين لتلقي دروسهم
العالية في جامعتنا المصرية. والسوريون والفلسطينيون أنفسهم يتمنون هذا ويلحون
فيه. ولم يتمنون بنوع خاص أن تسهل الحكومة المصرية لأبنائهم وسائل الدرس بالمدارس
المصرية. وأنا أعلم أنه قد يعترض عن هذه، الفكرة بالحكمة القائلة ( أبدأ بنفسك ثم
بمن تعول) وقد يقال أن مصر خليقة أن تنفق أموالها في تعليم المصريين قبل أن تنفقها
في تعليم السوريين والفلسطينيين ولكن مصر تخدم نفسهـا قبل كل شيء إذا نشرت تعليمها
في هذه البلاد الشرقية فهي لا تكسب مكانتها في هذه البلاد عبثا ومن الحمق أن تضيع
هذه المكانة أو تعرضها للضياع ضنا بمقدار من المال قليل.
على كل حال فإني أتمنى أن أرى المدارس
المصرية تنافس في سوريا وفلسطين مدارس الفرنسيين والإنجليز وأتمنى أن أشعر منذ
الآن بأن حكومتنا وجامعتنا تسهلان حقا لشبان هذه البلاد وسائل الدرس في مصر
والتأثر بشخصيتها العلمية الجديدة التي مهما تكن ضعيفة ضئيلة فهي قوية جدا بالقياس
إلى أهل هذه البلاد.
وآنا أرجو أن يتفضل الأستاذ الجليل مدير
الجامعة المصرية فيقبل تحيته الخالصة وإجلالي العظيم،،، 27 إبريل سنة 1926.
إمضاء ( طه حسين)
البحث العلمي الحر هو طريق
التقدم
كان طه حسين يدعى كثيرا لحضور المؤتمرات
والندوات والاحتفالات الثقافية العربية والدولية التي تقام في أنحاء العالم، سواء
بصفته الشخصية أو ممثلا لبلاده.
وعندما يعود إلى وطنه يقدم للجهة التي
مثلها تقريرا شاملا عن الأعمال والوقائع والمعارف التي شارك فيها باللغة العربية
أو الفرنسية، أو باللغتين معا، بالإضافة إلى ما ينشره في الصحافة من مقالات، وما
يذيعه من أحاديث، فيها كل ما يتصل بهذه المؤتمرات والندوات والاحتفالات.
وقد يتطرق من الحديث عنها إلى وصف معارج
المدينة التي تعقد فيها، والى عرض آثارها وعمارتها وفنونها، والى ما يلقاه من
حفاوة وتقدير، وغير ذلك بما تختلج به نفسه، ويجب الاسترسال فيه.
ومعظم كلمات طه حسين التي ألقاها في هذه
المناسبات، وتقاريره التي قدمها في مصر - أن لم يكن كلها - غير معروفة لأحد،
لأنها، بطبيعتها، توجه إلى المسئولين في مكاتبهم، ولا تنشر في الدوريات والكتب،
وليس من السهل اليوم أن نعثر عليها إلا بجهد خارق.
ومع هذا فعلينا إلا نفقد الأمل في أن نجد
هذه الوثائق الأدبية، وننفض عنها غبار السنين، إما بين الأوراق الخاصة التي خلفها
طه حسين، ومن بعده د. محمد حسن الزيت زوج ابنته، وكل من عمل معه. أو في محفوظات
الجهات التي دعته في الخارج أو في الجهات التي أوفدته مثل الجامعة المصرية، وزارة
المعارف، مجمع اللغة العربية، جامعة الدول العربية، المجلس الأعلى لرعية الفنون
والآداب، وغيرها.
ولا شك أن هذه الكلمات والتقارير التي
وضعها طه حسين تعد ثروة أدبية لا تقدر بثمن، بما تلقيه من الضوء على الثقافة
العربية في حوارها مع الثقافات الأخرى، وبما تتيحه لنا من معرفة أعمق بشخصية طه
حسين، حين يخاطب العالم الخارجي، وبمدى حرصه على إلا تتخلف الأقطار العربية عن
حضور مثل هذه المؤتمرات الدولية، وأن تكون اللغة العربية، كاللغات الأوربية لغة
رسمية فيها.
كما تكشف هذه التقارير عن ثقافة طه حسين
الموسوعية، وعن أفكاره المتقدمة في الفن والحياة، التي عبر عنها بلا مجاملة، وهو
بعيد عن وطنه، يرى الأشياء في أبعادها الكاملة.
والتقرير التالي إحدى هذه الوثائق الخطية
النادرة التي لم تفقد، كتبه طه حسين إلى رئيس الجامعة المصرية سنة 1930، أي منذ 65
سنة، بعد حضور احتفال الكوليج دي فرانس في باريس بمرور أربعة قرون على انشائها.
والكوليج دي فرانس أشهر المؤسسات العلمية
في فرنسا وأقدمها، لم تكن تتقيد في الالتحاق بها بمراحل دراسية أو شهادات معينة،
وكان يختار للتدريس فيها أقدر الأساتذة وأكثرهم كفاءة في العلوم والإنسانيات.
ولهذا احتلت مكانتها العالية بين
الجامعات، ونالت في الوقت نفسه من المقاومة والحسد قدر ما تمتعت به من شهرة ومجد.
في هذا التقرير يشير طه حسين إلى تاريخ
هذه الأكاديمية العريقة، والى نظامها في الالتحاق بها، والى منهجها الحر في البحث
العلمي، وإلى دورها في تأسيس الدراسات الإنشائية جنبا إلى جنب العلوم التجريبية،
ودراسة الفلسفة القديمة في توازن مع الفلسفة الحديثة. ويومئ التقرير أيضا إلى قيمة
خروج الفكر من التقليد الموروث، وأهمية التجديد والتطور، والى دلالة الفنون
الشعبية على مظاهر الحياة الاجتماعية، المادية والنفسية، داعيا الجامعات المصرية
إلى عبور الحدود، وتوثيق علاقتها بالجامعات الأخرى، لتصبح على علم متصل الفكر
الإنساني، والى إقامة احتفالاتها على غرار احتفال الكوليج دي فرانس، الذي تقام فيه
حلقات البحث والمحاضرات العلمية في الصباح، والغناء والرقص والموسيقى الشعبية في
المساء، لما تحققه هذه الصور من النشاط المتنوع من فائدة عقلية وروحية للمشاركين
فيها، ومن بحث للحياة في الجامعة، ومن تبادل ثقافي وفني مع العالم، يعم نفعه على
الوطن.
والحق أن تقرير طه حسين، بمنطقة الواضح
وغناه وصدقه، ليس بحاجة إلى أي تقديم. ولكني أرجو من الذين ما زالوا يخوضون في
سيرة هذا الرجل، ويشيعون عنه أنه كان ضد الأزهر، أن يقرأوا كلماته التي يتمنى فيها
لو كان ممثلا لهذه الجامعة العريقة، أقدم الجامعات في العصور الحديثة، وليس ممثلا
للجامعة المصرية، حتى يكون أول المتحدثين في هذا الاحتفال الذي رتبت فيه كلمات
المتحدثين بحب تاريخ إنشاء جامعاتهم.
وأرجو أن يلتفت القراء العرب إلى وعي طه
حسين المبكر بأن حاجة الدولة إلى الجامعات والمعاهد والمدارس التي تفتح كوى النور
على الثقافات والحضارات التي تعيش عليها الإنسانية، وتخلق العقلية المدنية،
والتفكير المستقل، لا تقل عن حاجتها إلى الخريجين الكتابيين والفنيين الذين يشغلون
وظائفها، ويتولون إدارتها، ويسيّرون أمورها، والى غير ذلك من الأفكار والمعاني،
التي نحتاج إليها هذه الأيام، والحياة تندفع من حولنا، بأكثر مما كنا بحاجة إليها
قبل ما يزيد على نصف قرن، والحياة مثقلة بالتقاليد الجامدة.
وهذا هو نص التقرير:
"أتشرف بأن أرفع إلى معاليكم تقريرا
موجزا عن المهمة التي كلفني مجلس الجامعة تأديتها في باريس، وهي تمثيل الجامعة في
الاحتفال بمرور أربعة قرون على إنشاء الكوليج دي فرانس.
مع أن هذه المهمة لم تكن علمية خالصة
بالمعنى الذي يفهم من هذه الكلمة فإن الظروف التي أحاطت بها والبيئة التي أديت
فيها لم تخلها من فائدة علمية قيمة جدا. فالكوليج دي فرانس أقدم معهد للعلم الحديث
أنشئ سنة 1530 للبحث الحر والدرس الخالص من كل سعي إلى غاية علمية ما.. وواضح أن
الاحتفال بهذا المعهد يثير ذكريات مؤثرة لتاريخ النهضة الحديثة، وما لقي العلماء
والمصلحون في تأسيسها من ضروب المشقات التي يتصل بعضها الآخر ببخل الحكومات بما
يحتاج إليه البحث الحر الخالص من معونة مالية. وقد أخذت الكوليج دي فرانس بحظها من
هذه الصعوبات فقاومتها السوربون مقاومة شديدة، واتهمت أساتذتها في أول الأمر
بالمروق من الدين والإلحاد فيه. والغريب أن ملوك فرنسا قبل الثورة وهم زعماء
الاستبداد وأنصار نظرية الحق الإلهي هم الذين كانوا يحمون هذا المعهد من طغيان
الجامعة وتحكمها فلما كانت الثورة الفرنسية وتغيرت نظم التعليم ومعاهده في فرنسا
احتفظت الكوليج دي فرانس بوجودها وامتيازاتها احتفاظا تاما.
على أن الكوليج دي فرانس لقيت أثناء القرن
التاسع عشر شيئا غير قليل من العنت، فقد كرهت بعض الحكومات الفرنسية المستبدة
تعليم طائفة من أساتذتها بما كان في هذا التعليم من حرية تمس الدين أو تمس السياسة
فوقفت بعضهم وفصلت بعضهم الآخر. ولعل رينان أظهر مثل لهذا الظلم فقد عطلت
الإمبراطورية الثانية درسة نحو عشر سنين، ولم يستطع أن يستأنف هذا الدرس إلا في
عهد الجمهورية الثالثة.
ولقيت الكوليج دي فرانس ضروبا من العسر
المالي فكثيرا ما كانت الحكومات الملكية تقصر في دفع أجور الأساتذة إليهم كثيرا ما
كانت تأجرهم عينا لا نقدا. ولم تستطع الحكومات الفرنسية المختلفة أن تمنحها ما
كانت تحتاج إليه لتأسيس المعامل وشراء والكتب. وبرغم هذه الصعوبات فقد اتصلت حياة
الكوليج دي فرانس خصبة منتجة. ومما لا سبيل إلى الشك فيه أن العلم الحديث مدين
لهذا المعهد ورجاله بحظ عظيم جدا من التقدم. ففي هذا المعهد أسست الدراسات العلمية
للغات اللاتينية واليونانية والسنسكريتية وللغات السامية على اختلافها. وفي هذا
المعهد العظيم تقدمت العلوم التجريبية تقدما عظيما على يد جماعة من النوابغ يكفي
أن يذكر منهم كلود برنار. وفي هذا المعهد درست الفلسفة القديمة وترجمت. كما أنشئت
الفلسفة الحديثة الفرنسية. ويكفي أن نذكر أسماء حاسندي وبرت لمي سانت ميلير
وبرجسون، يظهر ذلك واضحا كل الوضوح. وقد كانت المحاضرات التي القيت في هذه
الاحتفالات حول تاريخ العلوم في الكوليج دي فرانس مملوءة بالمعرفة والعبرة، شاهدة
بهذه الحقيقة التي يرددها الناس كثيرا ولا يؤمنون بها إلا قليلا وهي أن وجود العلم
ورقية رهينان بحب الحقيقة من حيث هي، وبالتضحية في سبيلها. وان الحياة العلمية إذا
احتاجت للمدارس النظامية التي تمنح الدرجات والإجازات وتهيئ للدولة العمال الذين
ينهضون بأعبائها، فهي أشد حاجة إلى المدارس التي تدرس العلم للعلم، لا تمنح درجة
ولا تهيئ عاملا ولا تنظم امتحانا ولا تتقيد بمنهج.
والكوليج دي فرانس هي المثل الأعلى لهذا
النوع من المدارس. ويكفي أن نعلم أن قاعدتها الأساسية هي: أن العلم يجب أن يدرس
فيها لا كما ألفه الناس واستقرت عليه الآراء، ولكن كما يؤدي إليه البحث الشخصي
الحر الخالص. ومن هنا كان أساتذة الكوليج دي فرانس أحرارا لا يفرض عليهم منهاج
دراسي خالص ولا يتقيدون بموضوع معين للدرس ولا يكلفون إلا شيئا واحدا وهو أن يكون
الأستاذ مبتكرا فيما يلقي من الدرس. وليست الحرية المقصودة على الأساتذة وحدهم بل
المعهد كله مستقل في تنظيم دراسته. لا يتقيد في ذلك بدرجة علمية وإنما قاعدته
الاعتماد على الكفاية العلمية وحدها. وإذا اختار أساتذة المعهد زميلا لهم صدر
المرسوم بتعيينه في منصبه وهو غير قابل للعزل إلا أن يطلب هو الإحالة إلى المعاش.
وعندما أنشئت الكوليج دي فرانس لم يكن
فيها إلا كورسات ثلاثة لليونانية واللاتينية والعبرية. ثم أخذت هذه الكورسات تزداد
شيئا فشيئا حتى انتهت الآن إلى أربعين تمثل فروع المعرفة الإنسانية على اختلافها.
وأكثر الذين يشغلون هذه الكورسات الآن أعضاء المجمع العلمي الفرنسي على اختلاف طبقاته.
وقليل منهم من لم يصل بعد إلى طبقة من طبقات هذا المجمع. وجميعهم على كل حال من
أعلام فرنسان الممتازين في الأدب والفن والعلم.
ولم يكن للكوليج دي فرانس في أول أمرها
مكان ثابت، وانما كان الأساتذة يتنقلون بدروسهم في أماكن مختلفة ثم أقيم لها
بناؤها الحالي وقل فيه التجديد ولم تكثر به العناية. ويظهر ذلك واضحا إذا لاحظنا
ضيقة وما يظهر عليه من القدم والتهدم في كثير من أجزائه.
الجامعة واحتفالاتها
وقد بدئت الاحتفالات في صباح الخميس 18
يونية فألقيت في صباح هذا اليوم واليوم الذي يليه محاضرات عن تاريخ العلوم في
الكوليج دي فرانس. وخصص آخر النهار وأول الليل للحفلات الرسمية. وكانت هذه الحفلات
كثيرة منوعة. فبعد ظهر الخميس استقبل مدير الكوليج دي فرانس المندوبين الذين
يمثلون الجامعات والمعاهد العلمية وكان هؤلاء المندبون كثيرين جدا يمثل الأجانب
منهم أربعا وثلاثين أمة من أوربا وأمريكا وآسيا وأفريقيا. وخطب المدير خطبة جميلة
شكر فيها هؤلاء المندوبين. وكانت أعلام الأمم الممثلة في هذا الاحتفال تخفق في
فناء المعهد وبينها العلم المصري طبعا وفي مساء هذا اليوم دعت مدينة باريس
المحتفلين إلى عشاء في دار البلدية، تلته حفلة كان فيها تمثيل وغناء وموسيقى ورقص
وكان يتخلل هذا كله خطب قيمة ألقاها رئيس المجلس البلدي ومحافظ إقليم السين وأستاذ
أمريكي بالنيابة عن الأجانب ومدير الكوليج دي فرانس.
وبعد ظهر الجمعة 19 أقيم الاحتفال الرسمي
بالمدرج الأكبر بالسوربون برئاسة المسيو بول دومو رئيس الجمهورية وكان هذا
الاحتفال بديعا فخما جدا أقبل إليه الممثلون لأكثر جامعات العالم بملابسهم
وشاراتهم الوطنية والجامعية. وافتتحت الحفلة بنشيد المرسييز طبعا وألقيت خطب
كثيرة، ألقاها رئيس الجامعة في باريس بالنيابة عن الجامعات الأجنبية لأن جامعته
أقدم جامعات العالم، أنشئت في القرن الحادي عشر.. ولو أني كنت أمثل الأزهر لسبقت
إلى هذا الشرف لان أزهرنا أقدم من جامعة بولوني. وخطب الممثلون لطبقات المجمع
الفرنسي والأكاديمي، فذكر كل منهم ما لطبقته أو مجمعه من أثر علمي في حياة الكوليج
دي فرانس فنوديت أسماء الذين يحملون التحيات إلى الكوليج دي فرانس فنوديت أسماء
الذين يحملون التحيات حسب الأقدمية للمعاهد التي يمثلونها. وكان كل واحد منهم يحمل
هذه التحية إلى مدير الكوليج دي فرانس، ثم يمر أمام رئيس الجمهورية فينحني محييا.
وكنت في أواخر الذين يحملون تحياتهم لأن جامعتنا حديثة العهد، ومع ذلك لم أكن
آخرهم. وكانت هذه التحيات مكتوبة باللغات المختلفة حتى أن تحية مدرسة المعلمين
العليا في باريس قد كتبت باليونانية القديمة. أما تحية الجامعة المصرية فقد كتبت
بالعربية كما تعلمون، ولكني قدمت معها ترجمة فرنسية.
احتفاء بالجامعة المصرية
ويسرني أن أسجل هنا أن عناية المحتفلين
بجامعتنا كانت أشد وأغرب مما كان ينتظر، فقد قابل الجمهور ممثل الجامعة وهو يقدم
تحيته بتصفيق حاد جدا لم يشاركه فيه إلا رئيس جامعة لوفان البلجيكية التي كسبت عطف
الناس جميعا بفضل ما لقيت أثناء الحرب الأخيرة من المحن على يد الألمان. ونهض رئيس
الجمهورية فصافح ممثل الجامعة المصرية وأثنى على الجامعة وعلى مصر بعبارة رقيقة
ظريفة. وكذلك فعل وزير المعارف ومدير الكوليج دي فرانس. ولما انتهى تقديم التحيات
خطب مدير الكوليج دي فرانس شاكرا، ثم خطب وزير المعارف فكانت خطبته آية في البيان
واللباقة والسياسة، لأنه أراد أن يعرف لملك من ملوك النظام القديم هو فرانسوا
الأول فضله دون أن يؤذي إحساس الجمهوريين وأنصار الثورة الفرنسية، فسما بالكوليج
دي فرانس عن الخصومات السياسية والحزبية، وعرف لذلك الملك فضله على النهضة، ولم
يهمل الإشارة إلى عجزه عن إقامة بناء الكوليج دي فرانس، بل عن فهم هذا المعهد كما
يفهم الآن. وكان مؤثرا جدا في آخر خطبته حين التفت إلى جماعة من أساتذة الكوليج دي
فرانس كان يختلف إلى دروسهم أيام الشباب وأخذ يذكر فضلهم عليه، ويقص شيئا من
ذكرياته أيام الطلب، ثم ختم خطبته معلنا باسم الحكومة الفرنسية أن الجمهورية ستؤيد
استقلال الكوليج دي فرانس وحريتها، وأنها لن تتردد في إمدادها بكل ما تحتاج إليه
من معونة.
وفي مساء هذا اليوم أقام أساتذة الكوليج
دي فرانس وليمة عشاء في فندق كلاريدج للمحتفلين ألقيت فيها الخطب العادية في مثل
هذه الحفلات. وفي يوم السبت 20 يونية دعي المحتفلون إلى زيارة مدينة فنتنبلو وقصر
فرانسو الأول فيها. وقدمت الكوليج دي فرانس إليهم الغداء هناك.
حفلة في بيت
"موليير"
وفي مساء اليوم نفسه أقيمت لهم في بيت
موليير حفلة تمثيلية بديعة مثلت فيها قصة "السوقة النبيل".
وبعد ظهر الأحد 21 يونية استقبل رئيس
الجمهورية المحتفلين في قصره وهناك قدم إليهم الشاي.
وختمت هذه الحفلات في يوم الاثنين 22
يونية بحفلة ساهرة أقامها المارشال ليوتي في معرض المستعمرات وشهد فيها المحتفلون
ضروبا مختلفة من لهو المستعمرات الفرنسية في أفريقيا وآسيا وأمريكا. وربما كانت
هذه الحفلة غريبة بعض الشيء فإن ما عرض فيها على المحتفلين لم يكن من الرقي والرقة
بحيث يلائم مكانة الكوليج دي فرانس، وإنما هي ضروب من الرقص الهمجي، عرضت على
طائفة راقبه من الناس فكان بعض الإنسانية يلهو ويضحك من بعضها الآخر. ولكن من
الناس من يعطي لهذه الحفلة قيمة علمية ما فهي لا تخلو أن تكون نوعا من أنواع الدرس
لطائفة من مظاهر الحياة الاجتماعية المنحطة. وإذا كان علماء الاجتماع يؤلفون الكتب
القيمة في درس هذه المظاهر، ويقرأ الناس هذه الكتب، فلم لا تعرض عليهم هذه المظاهر
عرضا حيا؟
ومهما يكن من شيء فقد دلت هذه الحفلات
كلها على شيئين، أحدهما حب الأجانب لفرنسا وللناحية العقلية فيها بنوع خاص،
وإعجابهم بالكوليج دي فرانس وما بذلت من جهد موفق في ترقية العلم. والثاني حرص
الفرنسيين على العناية بضيوفهم وتيسير الحياة لهم وإظهارهم على أكثر ما يمكن أن
يظهروا عليه من مجد بلادهم.
وربما كان من أجمل ما أقيم في هذا العيد
لهذا الغرض المعرض الذي افتتح في دار الكتب الأهلية لتاريخ الكوليج دي فرانس، وعرض
فيه ما يمثل الحياة المادية لهذا المعهد من صور مؤسسيها ومعينيها وأساتذتها، ومن
الكتب القديمة سواء منها المخطوط والمطبوع، ومن أدوات المعامل في اختلاف العصور
التي مر بها هذا المعهد العظيم. وكذلك الأغاني والموسيقى التي كانت تسمع في جميع
ما أقيم من الحفلات والتي كانت كلها تمثل القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن
عشر. وعلى الجملة فقد نجح هذا العيد نجاحا أحسب أن الكوليج دي فرانس كانت تنتظره
أو تقدره.
أما أنا فإني اشكر للجامعة أجمل الشكر
تفضلها بندبي لتمثيلها في هذا العيد، فقد أتاحت لي بذلك أن أشهد أشياء ما كنت
لأشهدها لولا هذه الفرصة ولن أنساها ما حييت. كما أتاحت لي أن اتعرف وأتحدث إلى
جماعة كبار العلماء في الأمم المختلفة وكل ما أرجوه أن أكون قد أحسنت تمثيلها في
هذا الحفل العظيم.
وإذا لم يكن بد من أن ينتهي هذا التقرير
إلى نتيجة أعرضها وأرجو أن تأخذ بها الجامعة فهي أن العناية بمثل هذه الحفلات أمر
لا بد منه وأن جامعتنا لا ينبغي أن تهملها ولا أن تقصر في تمثيل نفسها فيها مهما
يكلفها ذلك، فإن هذا التمثيل على ما ينتج من الفوائد التي يجنيها الممثلون أنفسهم
والتي تنشأ عن توثيق الصلات بين الجامعة وبين المعاهد العلمية الراقية هو أحسن
تعريف بجامعتنا في البيئات العلمية، وأحسن إعلان مشروع للجهود الصادقة التي تبذلها
بلادنا في تأسيس نهضتها الحديثة. وإذا كانت أقدم الجامعات الاوربية لا تتردد في
تمثيل نفسها في هذه الحفلات مع أنها غنية عن أن تعلن عن نفسها فجامعتنا الناشئة
خليقة بأن تأخذ بحظها من هذا التمثيل كلما سنحت لها الفرصة.
وأنا أرجو أن تتفضلوا فتقبلوا تحيتي خالصة
وإجلالي العظيم".
إرسال تعليق