السعادة هبة من الله أم صناعة ذاتية
هبة من الله تنبعث في الروح مهما كانت الظروف والملابسات، فمنذ بواكير التفكير الآدمي، والإنسان مشغول بالسعادة، مهموم بوسائل تحقيقها: قفزاً، وسلباً، واحتكاكاً، ومنافسة، وابتساماً، ونهماً، وانحناء، وسطوة، وتدليسا، وتضحية، ورقصا، وقلقا، واكتنازا، وخبصا، ومضاربة، ومقامرة، ومقاومة، ومداهمة، وفروسية، وشعرا، وقناعة، وطمعا، ونفاقا، وعزلة، وشدوا، وتهليلا، ومرحا.. مع أن أخطر ما في السعادة أنها ـ في المقابل وبشكل متلازم ـ تطرح البؤس، والعذاب، والتعاسة.
ولقد كان نيرون ـ الإمبراطور الروماني ـ سعيداً وهو مستغرق في العزف على الجيتار أثناء احتراق روما، سعادة طافحة يحس بها المنتقمون خلال قطع الأعناق والأرزاق ودهس الزهور، والدين الإسلامي يفوق كل الأديان الأخرى في الأمر بالتعفف والتسامي والعفو، والتطهر، وعدم الانسياق في إشباع الرغبات ـ كما وكيفاً، والسعي للوصول إلى النرفانا ـ أي الرضا الروحي والنعيم الناجم عن التأمل في غبطة وحبور ـ حيث تطمئن النفس، لتقوم سعادتها على الأمن الباطني، والابتعاد عن كل ما يسبب الألم والقلق والخوف، وهو أمر واسع فيه ـ مع الأسس الدينية ـ كلام فلسفي وتربوي كثير، والدخول فيه قد يقودنا إلى ما يغرقنا: سعادة، وتعاسة أيضا.
والمدينة ـ أية مدينة معاصرة ـ تحتوي على النواتج الجميلة في تدمير السعادة خلال العصور: الضجيج والفردية وصوت الإذاعات والمسجلات والآلات والمركبات (ولصوتها إقلاق يختلف عما يحدثه الضجيج)، وإنها لمتعة كبرى ـ سعادة لا توصف ـ أن تترك كل ذلك خلفك، وتخترق هذه الدنيا لتصل إلى الاتساع المذهل في آفاق الصحراء الساكنة الوديعة الصامتة، فإذا كنت في حاجة إلى صوت ناعم هامس فعليك أن تستند بظهرك إلى الصحراء، وتضع قدميك على مشارف ماء البحر، عذراً، فأنا لا أضمن لك الحماية من الأعاصير والأمواج الهادرة، أو أن يكون أقرب المخلوقات إليك: أسرة ذات ضجيج، أو حارسا يبتزك، أو ذئبا يمعن في جلستك السعيدة ويقعي على مؤخرته قريباً منك إنه بالغ السعادة ـ هذا الذئب ـ كلما أمعن في وجهك المبتسم.
والسعادة تحب الصداقة، وتسري نغماتها الساحرة في مجال الحركة المغناطيسية التي تنطلق من أفراد ذوي قدرة على إشعاع الارتياح حولهم، ودون كلام، فكثيرا ما يكشف الصمت عن قوى غامضة تبث السعادة في الجوانح، ولعل الضجيج ـ تعبيرا عن الفرح ـ يعني الخوف من السكون، والسكون يتيح التأمل، الذي هو ضد ضجيج الفرد والجماعة أيضا.
ولقد كان (جحا) على رأس الأحرار الذين يملكون حق المتعة بما يحدث ولو كان مقلوبا، وما نقل عن شخصية (جحا) ثم ما فعله الآخرون لحساب شخصية (جحا) ينم عن تغلغل هذه الرغبة في إذكاء روح المرح والسخرية لدى الناس، إذ يكاد يكون لكل شعب جحاه الخاص، ثم كل موقع، وكل جماعة بالتأكيد، وشريحة الأدب الساخر، أو فن القول المكتوب، قادرة على إثارة الابتهاج، لا يمكن أن تظل تعيسا حينما تقرأ إبراهيم عبدالقادر المازني وأبانواس ويحيى حقي وبرنارد شو ومحمد عفيفي ومحمود السعدني ومارك توين والجاحظ، وغيرهم كثيرون يحول جهلنا الخاص دون أن نتذكرهم ودون أن نسعد بقراءتهم، إنهم منتشرون في أنحاء الدنيا: الماضي والحاضر.
ولاتزال السعادة أمراً غامضاً، ولاسيما في الحالات التي تقوم فيها دون أساس مادي ملموس، أو سبب متوائم، وهي ـ في قمتها ـ تتساوى مع البؤس في أوجه، ذلك أن علماء النفس يرون في الغارق سعادة حالة مرضية، الإغراق في قراءة علم النفس والفلسفة يصنع عوائق تحول دون المتعة التلقائية، ولا يحقق دائما ـ من كثرة التحليل ـ ما نصبو اليه، وهو أيضا ما تفعله الموسيقى ـ الراقية بالذات ـ أي الخالية من الضجيج، والتي في الشرق تمنحك متعة وجدانية، وفي الموسيقى الكلاسيكية: تمنحك متعة عقلية، غير أن الإغراق فيهما يخرجك من اللعبة كلها.
ونسبة السعداء في الملوك والعواهل والأباطرة والحكام والولاة ليست في صالح السعادة، ولا في صالح هذه الشريحة ـ القادرة ـ من البشر، فالبؤس والتعاسة يسعيان في نشاط كي يحتلا أكبر مساحة من هذه النفوس، لكي نكتشف أن الإنجاب واتساع الهيمنة واحتياز الأموال والصداقات ليست هي السعادة ـ برغم اعتقاد الكثيرين.
يبقى أمر لابد من الإشارة إليه في سعادة، أن السعادة مثلها مثل التأليف والإبداع والرسم والرقص وإلحاق الهزيمة بالخصوم: موهبة، نعم: موهبة تحتاج إلى رعاية، كي لا تدمرها تلك الأمور التي استبعدناها خلال كتابة هذه السطور، أرجوك أن تظل صامتاً بعض الوقت حتى تتهيأ لمواجهتها.
وكم نحتاج إلى ذخيرة من الفرح والمرح والبشاشة والهدوء، كي نمتلك جزءاً يسيراً من الحبور الوجداني الذي يخفف عنا ـ وعمن حولنا ـ كل هذه الضغوط.
كلمات لها معنى:
- القلب الجميل قادر على التصالح أسرع من الوجه الجميل.
- الصداقة مثل الزبد: تفسد إذا ما استمر الجو حاراً.
- كلهم من الرجال: الطباخون، ومصممو ملابس النساء، والخطاطون، والخبازون، ومثيرو الشغب، وقادة الانقلابات العسكرية، وبناة القصور والمعابد، والمقامرون، وأطباء التجميل، وقباطنة السفن، وموزعو البريد، وأفضل كتاب الخطابات الغرامية، وجياد السباق ـ من الذكور أيضاً.
- إذا ما انحنيت لمساعدة أنثى في حمل أثقالها: عليك ألا تنسى نظرة الامتنان التي لن تجدها في موقع آخر.
- نصرخ من المكائد التي ينسجها الأقارب والأصدقاء، مع أنها تمنحنا وقتاً مؤلماً ـ وجميلاً ـ لنقصها على الغرباء.
- موائد المباحثات تميل إلى الاهتزاز، حيث تخلو من أطباق طعام نحرص عليها.
- الذل ليس معاكساً للكرامة، إنه ضد الإنسانية أصلاً.
- مشغول بأمر بالغ الأهمية: كيف يتسنى لي تنفيذ عملية شنق زرافة؟
إرسال تعليق