تلتمع في ديوان الشعر العربي "روميات"
أبي فراس، كما تلتمع "سيفيات المتنبي"، كلا الشاعرين ارتبط بسيف الدولة
الحَمْداني - أمير حلب - وعاش في كنفه، على اختلاف في درجة العلاقة وطبيعة الصلة -
فالأول ابن عمه وشقيق زوجته، والثاني شاعره الأثير الذي أخمل سائر شعراء بلاطه -
وكلاهما سجل في شعره أصداء تلك السنوات العاصفة التي جعلت فيها الأقدار من سيف
الدولة - الأمير العربي الوجه واليد واللسان الشجاع القلب والعقل - الصخرة الوحيدة
الراسخة التي تتكسر عليها موجات الغزو من جيوش إمبراطورية الروم.
وكما وجد
المتنبي في سيف الدولة ضالته المنشودة، بعد أن قلب البصر فيمن حوله فلم يجد إلا من
تعافهم نفسه ويرفضهم حسه العروبي ووجدانه القومي.
فأصبح سيف الدولة مثله الأعلى، وتجسيد حلمه
المفتقد، فقد وجد أبوفراس في سيف الدولة اليد التي امتدت إليه بالرعاية والعناية
بعد أن قتل أبوه وهو في سن الثالثة، وهيأ له سيف الدولة - بعد أن استقر له الأمر
في حلب - كل أسباب التنشئة على الأدب والفروسية حتى إذا ظهرت مواهبه المبكرة،
وتألقت فروسيته ونجابته ولاه ضيعة "منبج" بالقرب من حلب وهو لا يزال في
السادسة عشرة من عمره.
كان أبوفراس في مقدمة الصفوف إلى جوار سيف
الدولة، يخوض معه غمرات الحروب، ويُبلي خير البلاء، ويكشف عن معدن بطولته الأصيل،
حتى يأسره الروم وهو عائد إلى "منبج" من رحلة صيد، ويحمله جند تيودور
إلى "خرشنه" ثم ينقل إلى القسطنطينية مثخنا بالجراح، ويظل في الأسر أربع
سنوات، طويلة بطيئة، يذوق فيها ألم الأسر ومرارة البعاد ولوعة الحنين، ويصب هذا
كله في "رومياته" التي تعد أروع ما كتبه من شعر، والتي أفسحت له مكانا
في ديوان الشعر العربي إلى جوار كبار الشعراء في عصره، باعتبارها أناشيد بطولة
وبكائيات حنين ووحشة واغتراب، ودموعا عاتبة يتجه بها أبوفراس إلى سيف الدولة يحثه
على المسارعة إلى افتدائه من الأسر، لكن سيف الدولة يبطئ في الاستجابة، لأنه - كما
يقول بعض المؤرخين والمفسرين - كان يريد فداء عاما لكل من وقع من المسلمين في أسر
الروم وليس لأبي فراس وحده.
والقصيدة التي نطالعها الآن إحدى روائع أبى فراس
التي أبدعها وهو أسير في بلاد الروم والتي تعد من عيون "رومياته". يقول
لنا ديوانه إنه بعث بها إلى سيف الدولة بعد أن بلغه أن أمه ذهبت من منبج إلى حلب
لتكلم سيف الدولة في أمر مفاداته، وأنه ردها خائبة. والقصيدة تقدم صورة نادرة
المثال، مفعمة بالشجن واللوعة والحنين، لهذه الأم التي تفتقد وحيدها، والتي خرجت
تسائل الركبان عنه، دامعة مثقلة، ثم تمتلئ القصيدة بقطرات من نزف قلبه المطعون،
وهو يعاتب سيف الدولة. ويذكره بخصاله وسجاياه وبأقواله المأثورة وأفعاله، حتى
للآخرين من غير قومه، فما باله وهو من هو بالنسبة إليه وشيجة قربى وصلة دم ورحم.
وتكتسب القصيدة أهميتها وقيمتها - بالإضافة إلى
هذا الملمح الإنساني المفعم بالشجن والشجى - مما أنسكب عليها من رونق شاعرية أبي
فراس سلاسة وتدفقا وانسيابا، وجرسا نغميا داخليا مستكنا يتواءم مع الحالات النفسية
التي يتنقل بينها سياق القصيدة، وصياغة محكمة الأسر نافذة التأثير، تشف عن جمال
اللغة الشعرية في شعر أبي فراس، وبعده عن كل ما هو حوشي أو مستهجن أو غريب من
القول، وامتلاء شعره بتلك النفس العربية الشديدة الاعتزاز بأرومتها وبما تمتلكه من
قيم وصفات ومثل عليا، وما تمثله من نموذج عربي نادر وفريد، الشعر فيه والبطولة
صنوان.
يقول أبوفراس الحمداني:
يا حسرةً ما أكادُ أحملُها
آخرُها مزعجٌ وأولُها
عليلةٌ بالشآم مفردةٌ
بات، بأيدي العدى معللُها
تُمسكُ أحشاءها على حرقٍ
تطفئُها، والهمومُ تشعلُها
إذا اطمأنتْ، وأين؟ أو هدأتْ
عنَّت لها ذُكرة تقلقِلُها
تسألُ عنا الركبانَ، جاهدةً
بأدمعٍ ما تكادُ تهملُها:
"يا من رأى لي بحصن خرشنة
أسد شرى، في القيودِ أرجلُها
يا من رأى لي الدروب شامخة
دون لقاءِ الحبيب أطولها
يا من رأى لي القيود مُوثَقَةً
على حبيبِ الفؤادِ آثقلُها"
يا أيها الراكبان هل لكما
في حمل نجوى يخفُّ محملها
قولا لها إن وعت مقالكما
وإن ذكري لها ليذهلها:
يا أمتا هذه منازلنا
نتركها تارة، وننزلها!
يا أمتا..هذه مواردنا
نعلها تارة، وننهلها!
أسلمنا قومنا إلى نوبٍ
أيسرُها في القلوب أقتلُها
واستبدلوا بعدَنا رجالَ وغىً
يود أدنى علاي أمثلها
ليست تَنال القيود من قدمي
وفي اتباعى رضاك أحملها
يا سيدا ما تعد مكرمة
إلا وفي راحتيه أكملها
لا تتيمم، والماء تدركه!
غيرك يرضى الصغرى ويقبلها
سمحت مني بمهجةِ كرمت
أنت، على يأسها، مؤمَّلُها
إن كنت لم تبذلِ الفداءَ لها
فلم أزل، في رضاك، أبذلها
تلك الموداتُ كيف تهملها؟
تلك المواعيد، كيف تغفلها؟
تلك العقودُ التي عقدْتَ لنا
كيف، وقد أحكمت، تحللها
أرحامنا منك، لمَ تقطعُها؟
ولم تزل، دائبا، توصلها!
يا حسرةً ما أكادُ أحملُها
آخرُها مزعجٌ وأولُها
عليلةٌ بالشآم مفردةٌ
بات، بأيدي العدى معللُها
تُمسكُ أحشاءها على حرقٍ
تطفئُها، والهمومُ تشعلُها
إذا اطمأنتْ، وأين؟ أو هدأتْ
عنَّت لها ذُكرة تقلقِلُها
تسألُ عنا الركبانَ، جاهدةً
بأدمعٍ ما تكادُ تهملُها:
"يا من رأى لي بحصن خرشنة
أسد شرى، في القيودِ أرجلُها
يا من رأى لي الدروب شامخة
دون لقاءِ الحبيب أطولها
يا من رأى لي القيود مُوثَقَةً
على حبيبِ الفؤادِ آثقلُها"
يا أيها الراكبان هل لكما
في حمل نجوى يخفُّ محملها
قولا لها إن وعت مقالكما
وإن ذكري لها ليذهلها:
يا أمتا هذه منازلنا
نتركها تارة، وننزلها!
يا أمتا..هذه مواردنا
نعلها تارة، وننهلها!
أسلمنا قومنا إلى نوبٍ
أيسرُها في القلوب أقتلُها
واستبدلوا بعدَنا رجالَ وغىً
يود أدنى علاي أمثلها
ليست تَنال القيود من قدمي
وفي اتباعى رضاك أحملها
يا سيدا ما تعد مكرمة
إلا وفي راحتيه أكملها
لا تتيمم، والماء تدركه!
غيرك يرضى الصغرى ويقبلها
سمحت مني بمهجةِ كرمت
أنت، على يأسها، مؤمَّلُها
إن كنت لم تبذلِ الفداءَ لها
فلم أزل، في رضاك، أبذلها
تلك الموداتُ كيف تهملها؟
تلك المواعيد، كيف تغفلها؟
تلك العقودُ التي عقدْتَ لنا
كيف، وقد أحكمت، تحللها
أرحامنا منك، لمَ تقطعُها؟
ولم تزل، دائبا، توصلها!
إرسال تعليق