-->

توظيف التراث في الشعر العربي الحديث

توظيف التراث هو عملية مزج بين الماضي والحاضر في محاولة لتأسيس زمن ثالث منفلت من التحديد هو زمن الحقيقة في فضاء لا يطوله التغيير.

لفظـة" التوظيف "مصطلـح نقدي يدل على تقنيات استثمار التراث في الأعمال الشعرية بغية إمداده بالأبعاد التي تنقصه،أي بإثراءقالبه الذي جمد عنده بمعان معاصرة طيعـة تقبل السفر إلى الماضي كـما تقبله إلى المستقبل، أو على العكس من ذلك: إغناء هـذه الأعمال الشعريـة بمواقف وشخصيات تراثيـة تشعب الحيوية وبالشحنة الإيحائية والرمزية.
ويعتبر د. سيـد بحـراوي في "البحث عـن لـؤلـؤة المستحيل لما "التوظيف" نوعـا من أنواع التناص Intertextualite وهو اعتماد نص على آخر أو أكثر، بل إن النص ليـس إلا مـركـزالتجميع النصـوص السـابقة،إلا أن التنـاص لا يكن قصره على "المناصصات" التراثية، إذ تتسـع دائرة مجاله لمعانقة نصوص معاصرة. علاوة على أن توظيف التراث يتم بطريقة قصدية واعية، بينما التناص قـد يتم بطريقة لا شعـوريـة. ثـم إن التنـاص يقتصر على عـلاقتـه بالنصوص، بينما يتجـاوز التوظيف النصوص إلىالشخصيات والأعلام والأحـداث التاريخية. وعلى كل حال،فتوظيف التراث معناه" استخدام معطيات التراث استخداما فنيا إيحائيا، وتـوظيفها رمزيا لحملا لأبعاد المعاصرة للرؤية الشعرية للشاعر بحيث يسقط الشاعر على معطيات التراث ملامـح معاناته الخاصة، فتصبح هذه المعطيات معطيات تراثيـة معاصرة تعبر عن أشد هموم الشاعر المعاصر خصوصية ومعاصرة، في الوقت الذي تحمل فيه كل عراقـة التراث وكل أصالته. وبهذا تغدو عناصر التراث خيوطا أصيلة من نسيج الرؤية الشعرية المعاصرة، وليست شيئا مقحما أو مفروضا عليها من الخارج ".
المزج بين الماضي والحاضر
ينبغي أن يتحقق شرط الإحاطة بالرموز التراثية وتبين أصولها ومصادرها قبل توظيفها فيشكل جديد حتى لا يسفر جهل الشاعر بتلك الأصول عن تشنج التوظيف، ومن ثم إخفاق عمليتي التوصيل والتلقي معا. وثمة شرط آخر يطالب به الشاعر، وهو أنه بالرغم من القاسم المشترك الموجود بين المبدع والمتلقي حـول الشخصيـة أو الموقف التراثيين، يجب عليـه أن يورد تلك الشخصية أو ذلك الموقف في السياق الذي تمليه عليه تجربته الشعورية بحسب المغزى الذي يريد أن يحققه، إذ لابد من تناول المعطى التراثي المراد بـالحرية التي تجعله يخضعه المتغـيراته ولتصوراته، فينطلق من خلاله عن شواغله الفكرية والوجدانية مع الحفاظ على الحد الأدنى من تكـوين هذا المعطى في أصله التراثي.
ويعتبر عز الدين إسماعيل خطأ وعيبا أي استخدام للرمز التراثي بوصفه معادلا ومقابلا لعقيدة أو فكرة معينـة، لأن ذلك يناقض تماما العمليـة النفسيـة المصاحبة لاستكشاف الرمز التراثي واستخدامه. ويرى أن هذاالأمر ينطبق أيضا على تـوظيف الأسطورة أو الشخـوص الأسطورية باعتبارها جمعا بين الرموز المتجاوبـة، "فحيثما يظهر السندبـاد أو سيزيف في القصيدة ينبغي أن يكـون ظهـورهما نابعّـا من منطق السياق الشعري للقصيدة، شأنهما في ذلك شأن الرموز (الشعر العربي المعاصر)". ولذلك يلاحظ علي عشر يزايد أن "نجاح الشاعر يقاس بمدى تـوفيقه في شحن الصورة بطاقـة لا تنفد من الإيحاءات من نـاحية، وبتوظيفه الخدمة السياق من ناحية ثانية" وهو يقترح ثلاث مـراحل أسـاسيـة من أجل أن تتحقق عملية التوظيف وتؤتي ثمارها، وهي كالتالي:
1)    اختيار مـا يناسب تجربة الشاعر في ملامح الشخصية التراثية.
2)    تأويل هذه الملامح تأويلا خاصا يـلائم طبيعة التجربة.
3)    إضفاء الأبعاد المعاصرة لتجربة الشاعر على هـذه الملاح أو التعبير عن هذه الأبعـاد من خلال هذه الملامح بعد تأويلها.
تقنية التوظيف
إن هذه المراحل من شأنها أن تحمي تقنية التوظيف ممـا سقطت فيه بعض التجـارب التي انحصرت في إلصاق نعوت تراثية بشخصيات تراثية، أو في المقارنة بين الماضي والحاضر، حيث نجـد أنفسنا أمام السرد التسجيلي للتراث دون إيماء رامـز، وحينئـذ تنفلت الشخصيات التراثيـة وتهرب بتاريخها أمام العجز عن استغلال تراثها وقدراتها الإسقاطية.
وقـد يتبين لنا الفرق الكبير الموجود بين التوظيف الفني للتراث في تجربتين متعارضتين، أولاهما تجنح إلى التوظيف الخاطئ انطـلاقا من تصور فرضتـه مراحل زمنية معينة، تحيلنا على تجارب لشعراء قدماء رددوا معطيات التراث كـما وصلتهم، وعلى تجارب لشعراء معاصرين ممن يسمون بشعراء الإحياء وشعراء النهضة كالبارودي وشوقي وحافظ وعزيز أباظة، وهؤلاء انحصرت علاقتهـم بالتراث في تـرديـد معطيـاتـه وتسجيله دون أن يكـون لـذلك علاقـة بتجـاربهم الشعـوريـة الخاصـة. وعلى تجارب لشعـراء محدثين حاولوا الدخول في الممارسة الفنيـة للتوظيف إلا أنهم أخفقوا في إدماج معطيات التراث في صميم ممارساتهم النصية. وإذا كان للشعراء القدماء وشعراء النهضة ما يشفع لهم، خـاصـة أن تجاربهم ارتبطت بخصوصيـة الزمن الذي أبدعوا فيه، فإن الفئة الثالثة تبقى محط لو ملأنها أساءت التصرف في الخـبرات المتراكمة لديها. وجرها انبهارها وتسرعها إلى إلصاق المعطيات التراثية بنصوصها الشعرية فلم تتحقق الغاية من تلك العملية الفنية، حيث غدت تلك المعطيات نباتا طفيليا أو عنصرا كيماويا لا يقبل الامتزاج بعناصرها الخاصـة فصارت النتيجة هي تكرار القديم.
وثانيهما: تجنح إلى التوظيف الفني السديد انطلاقا من تصور واع يدرك الغاية المثلى من هذه العملية، حيث يحدث التمازج التام بين المعطيات التراثية الرامزة وبين النصوص الشعرية، فيتم الاستنبات الـداخلي لتلك الرموز، ومن ثم إبداع خطاب ثالث يستند على التراث كـرمز مشع بالإيحاء ويسافر في المطلق الفني لتحقيق الرؤية المعاصرة، وقـد يذهب الشاعر - من هذه الفئـة - مذهبا بعيدا، كـأن يخفي المادة التراثية في داخل القصيدة، فلا مجال- حينئذ- لذكـر أسماء الأشخـاص أو الأماكن، ومـع ذلك تستجيب المادة التراثيـة للعين الناقـدة التي تقرأ القصيـدة بإمعان "بمعنى محاولةاستخراج التيمة في الأسطورة وإعادة عرضها على ضوء التجربة الخاصة للشاعر، أو بعبارة أخرى، إن الأسطورة يعاد خلقها ويعاد تحليل شياتها لتتحلل في بنية اللغة الشعرية وتكسب في الوقت نفسه عقلانية فنية تتجاوز به الا عقلانيتها المنطقية كـما يرى رجاء عيد.
ولعل كـمال أبو ديب كان مصيباً في التمييز بين ثلاثة نصوص تعمـل كلها على توظيف الأسطورة، ولكن لكل واحد طريقته في التوظيف، فـيرى أن "ثمة نصا ينظم الحدث الأسطوري (برومثيوس مثلا أو عشتار وأدونيس) ناقلا إياه من صيغته النثرية إلى صيغة منتظمة موزونة، لكنه لا يتجاوز كونه نظماً للأسطورة مهما كان في تفاصيله منصور أو تعابير جميلة شعرية. وثمة نص لا ينظم الحدث الأسطوري بل يتعامل معه بوصفه بؤرة دلالية رمزية، وثمة نص يتعامل مع الأسطـورة بوصفها نقطة انطلاق إلى بناء أسطـورة مضادة. وهكذا". وهو يسمي الحدث الأسطوري: البعـد المعجمي للأسطورة، والحل الذي تطرحه للتناقض الأساسي الـذي يميزه البعد الإشاري لها، وهذا يظهر في السياق الشعري للقصيدة التي تستثمر الأبعاد الرمزية للأسطورة أو التي تنطلق منها لبناء أسطورة جديدة مضادة.