الضمير وتنشئة الطفل



كيـف ينمو الضميـر لـدى الطفـل، ومـا الذي يتبـدى من تجليات الضمير في سلوك الطفل، وكيف تكون التنشئة؟

وتبدأ عملية نمو الضمير في السنة الثانية من عمر الطفل، عندما يكتسب تحريم أفعال معينة (لا تقترب من الكتب)، (لاتفتح الدولاب).. إلى آخر ذلك من التحريمات التي يتلقاها الطفل تدريجياً.. ومع تقدم السن لايقتصر الضمير على تلك الأوامر والنواهي البسيطة بل يتسع ليشمل معايير أكثر تعميماً، ليشمل عما يجب وما لايجب، فلا يكتفي الطفل بالعزوف عن ضرب أخيه الأصغر، مثلا، ولكن يتجاوز ذلك بأن يسلك تجاهه بطريقة (عطوفة) حانية (بشكل عام). بل أكثر من ذلك، قد يتعلم الطفل أيضا أن يكون (أميناً) و(مطيعاً) لايكذب ولايسرق، يحترم حقوق الآخرين وصالحهم وهكذا.
ويعتمد هذا التعميم بالطبع على نمو القدرات المعرفية للطفل، بمعنى أنه كلما أصبح الطفل قادراً على الفهم والاستيعاب بدرجة أكبر، فإن معايير سلوكه تصبح أكثر ميلا إلى تجاوز التحريمات البسيطة مثل (لاتضرب أخاك الأصغر) ويصبح الطفل أشد وعيا بالتطبيقات الأعم للمعايير والقيم الخلقية، مدركاً مثلاً أن (معظم الكائنات الحية تستحق منا أن نعاملها برفق).
ومع ذلك يجب ألا ننسى حقيقة مهمة جداً، وهي أن مجرد (معرفة الطفل بهذه المعايير لاتعني بالضرورة أنه يتصرف بمقتضاها) ذلك أن التزام الطفل بالمعايير الخلقية، إنما يعتمد علي عوامل أخرى مهمة ألا وهي: قوة التوحد مع قدرة لها نفس المعايير وملتزمة بها، مقدرا احتمال إثارة الشعور بالذنب عند مخالفة هذه المعايير.
حقيقة عامة أخرى، يجب معرفتها أيضاً، وهي أن تبني الطفل لقيم ومعايير الوالدين يعتمد على مقدار الدفء والحب اللذين يحاط بهما في علاقته بوالديه ومن خلال هذه الحقيقة نستطيع أن نرى أن الطفل الذي يتوحد بقوة مع الوالد يكون أسرع بالطبع في تبني المعايير السلوكية لذلك الوالد، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، فإن الطفل الذي يتمتع بعلاقة عاطفية دافئة مع الوالدين يكون حريصاً على الاحتفاظ بهذه العلاقة، ويخشى بدون شك من فقدانها، إن معظم الأطفال يقلقهم بالطبع ـ بعض الشيء على الأقل ـ احتمال فقدان العطف والحب اللذين يتمتع بهما مع والديه، ولذلك فهو يحافظ على معاييره السلوكية حتى يقلل من حدة ذلك القلق.
وهكذا تتضح أهمية شعور الطفل من فقدان الحب (كعامل آخر من العوامل التي يتضمنها نمو الضمير). على أن هذا الشعور بالقلق من فقدان الحب يتوقف على ما إذا كان هناك حب أصلاً. بعبارة أخرى فإن الطفل الذي لايشعر بحب والديه لايكون لديه مايخشى على فقدانه وبالتالي فإنه يصعب أن نتصور في هذه الحالة كيف يمكن أن يتمثل الطفل معايير وقيم المجتمع الذي ينتمي إليه.
من الواضح إذن أن نمو الضمير عند الطفل يعتمد على معايير الآباء أنفسهم، كما يعتمد على طبيعة العلاقة بين الطفل وأبويه. وهنا يمكن أن نضيف بعض العوامل التي تساعد على نمو الضمير عند الطفل:
1) أن يكون لدى الوالدين ضمير ومعايير خلقية ناضجة ومعقولة ليست متشددة أكثر من اللازم أو جامدة أو قاسية.
2) أن يكون تبني الطفل للمعايير (الوالدية) قائما على أساس عملية توحد إيجابية: حباً وليس خوفاً.
وضمن أهم العمليات التي يقوم بها الوالدان لتقويم السلوك الاجتماعي لطفلهما عملية الثواب والعقاب، إضافة إلى عملية ملاحظة الكبار في سلوكهم تجاه الآخرين، والتي يكتسب من خلالها الطفل، خلال سنوات تكوينه الأولى، الملامح الأساسية لسلوكه الاجتماعي، بل ولشخصيته.. إلا أن الشخصية والسلوك الاجتماعي لايمكن تفسيرها في ضوء الثواب والعقاب، كمتغير وحيد في بناء الشخصية، كذلك لانستطيع أن نفسر بناء الشخصية أيضاً بعبارة بسيطة مثل (الملاحظة) أو مشاهدة النموذج، فهناك الكثير والكثير من الأنماط السلوكية المعقدة التي قد تكتسب دون هذا التدريب المباشر، أي من غير أن يكون هناك شخص (يعلم) سواء بالتدعيم أو من دونه، وكذلك دون أن يكون لدى الطفل (نية) التعلم.. بعبارة أخرى، هناك ذاتية الطفل واستقلاليته، وإيجابيته التي قد تغفلها مثل هذه التفسيرات البسيطة، ولكي نتفادى هذه الثغرة، علينا أن ندخل في تفسير السلوك الاجتماعي، ونمو الشخصية عند الطفل من خلال آليتين مهمتين هما (التقلد) و(التوحد).
التقليد والتوحد
يبدأ الطفل في تقليد أفعال الآخرين في نهاية السنة الأولى. إلا أن التقليد عندئذ لايعتمد على الصور الذهنية بقدر مايعتمد على الملاحظة المباشرة للفعل، كما يحدث عندما يضع الطفل الغلالة على وجهه ثم يدفعها تقليدا لما تفعله أمه أثناء ملاعبتها له بهذه الغلالة.
ولكن ما إن يصل الطفل إلى سن السنة والنصف أو السنتين، (عندما يكون بإمكانه تكوين صور ذهنية لما يقع حوله، والاحتفاظ بتلك الصور واسترجاعها)، حتى تتسع دائرة الأفعال التي يمكن أن يقوم بتقليدها إلى أبعد حد ممكن، فالأطفال في هذه المرحلة يقلدون كل شيء يقع تحت ملاحظتهم حتى جلوس الآباء واستخدامهم السيجار.
التقليد، إذن، يحدث في هذه المرحلة بناء على وجود قدرة عند الطفل على تكوين صورة ذهنية للأفعال التي يكون قد شاهدها من قبل ثم تم استرجاع هذه الصور، وبناء على ذلك، فإنه يمكننا أن نتساءل: لماذا يميل الطفل في هذه الفترة إلى التقليد؟ أو ما الذي يدفع طفل هذه المرحلة إلى تقليد فعل ما وليس كل فعل؟.. هناك عدة تفسيرات، منها أن الطفل يريد أن يطيل فترة الاستثارة التي يحدثها التفاعل بينه وبين الكبير، ومنها أن الفعل الذي يقوم الطفل بتقليده يحدث نتائج ممتعة بالنسبة له.. مثلا عندما يضغط الطفل على زر المذياع، (كما فعل أبوه)، لكي يحصل على نغمات موسيقية يستمتع بالاستماع إليها.
ولا شك في أن كل مهارة يكتسبها الطفل تزيد من شعوره بالسيطرة على البيئة كما تزيد من شعوره بالكفاءة. فإذا فرضنا أن طفلا ما غير واثق مثلا من قدرته على الإمساك بسماعة الهاتف والتحدث، فإن محاكاته لهذا الفعل تزيد من شعوره بالثقة في قدرته، فالأطفال في هذه المرحلة تزداد حساسيتهم نحو أنفسهم كأفراد ذوي تأثير في البيئة المحيطة بهم.. ولذا فإنهم ينتهزون كل فرصة لكي يزيلوا عن أنفسهم كل شك في ذلك.. ويمتد نشاطهم هذا لكي يشمل أوسع مدى من الأعمال اليومية، فهم يبذلون كل جهد لكي يشاركوا في معظم القرارات الخاصة بهم، مثل، الذهاب إلى الفراش، الملابس التي يرتدونها، المأكولات التي يفضلونها وهكذا.
وكل شيء يقوم به آباؤهم وإخوانهم، يرغبون هم أيضا في القيام به، وتتعدى رغبتهم هذه كل حدود إمكاناتهم، فما يريدون أن يقوموا به قد لايتناسب بالمرة مع ما يستطيعون أن يقوموا به بالفعل. إنهم يشعرون بأنهم أعضاء لهم قيمتهم في الأسرة، لأنهم يستطيعون الآن أن ينجزوا الأعمال التي يمكن أن يقوم بها الآخرون.. ويمكن القول بأن شعورهم هذا يتناسب مع مقدار ما يكتسبونه من مهارات.
إن اكتساب الطفل للمهارات عن طريق التقليد لايتناقض مع نزعته إلى تنمية شخصية استقلالية، ذاتية النشاط. وقد تصل حدة ذلك التناقض الظاهري عندما يصل التقليد إلى أعلى مراحله، عندما تتقمص البنت شخصية أمها، ويتقمص الولد شخصية أبيه، أي عندما يتوحد كل منهما مع مثله من نفس الجنس.
والتوحد هو أعلى مراحل التقليد، ويشير مفهوم التوحد إلى عمليتين.. الأولى: ملاحظة الطفل أنه يشبه شخصاً ما آخر، والثانية: مشاركة الطفل لهذا الشخص الآخر في انفعالاته.. هذا الشخص بالنسبة للطفل هو أحد الوالدين بالطبع.
ذلك هو الفرق بين (التعلم) الذي يتم عن طريق الملاحظة والتقليد، و(التعلم) الذي يتم عن طريق التوحد، ولكن بالرغم من ذلك الاختلاف بين التقليد والتوحد، فإنهما يلتقيان فيما يؤديان من وظيفة في نمو شخصية الطفل.
إن التوحد مع أحد الوالدين يحقق للطفل الحاجات الأساسية التي يسعى إلى تحقيقها في هذه المرحلة، فهو يمكن أن يكون مصدرا للشعور الذي يفتقر إليه الطفل.. ذلك أن الطفل قد يشعر عندئذ أنه قد (أدمج) في (ذاته) قوة وكفاءة هذا الوالد، وما دام هو يسعى إلى تحقيق الكفاءة والقوة في البيئة التي يعيش فيها، لذا فإن (المشاركة) مع الوالد فيما يملكه هذا الأخير، من إنجازات ومن قوة، ومن مهارات ومن استمتاعات، سوف تزيد من شعور الطفل بالسيطرة على البيئة، وبالتالي من شعوره بالأمن والاطمئنان في هذا الإطار، وباختصار فإن التوحد يشعر الطفل بأن الوالد معه، حتى لو كان بعيدا عنه جسديا، هذا الارتباط بالوالد، حتى وهو بعيد، يزيد من اتساع المجالات والمواقف التي يشعر فيها الطفل بالأمان.
والملاحظ، هنا، أن التوحد يتم بين الطفل وأحد والديه عندما يدرك الطفل أوجه تشابه بينه وبين والده، والوضع النموذجي، هو أن الولد مع والده، والبنت مع أمها. ولكي يتم التوحد بدرجة قوية مع الوالد لابد من أن يملك الوالد صفات جذابة بالنسبة للطفل، فاستعداد الطفل للتوحد مع والد يتحلى بالدفء العاطفي والرعاية والحب، يكون أسرع وأقوى منه بالنسبة لوالد رافض أو مهمل، كذلك فإن الوالد الذي يكون على درجة عالية من الكفاءة، والذي يكون في نظر الطفل، قويا، يمكن أن يشكل نموذجا للتوحد أقوى من ذلك الوالد الذي يكون ضعيفا أو غير كفء.
الثواب والعقاب
أيضا تعتبر السنوات الأولى من عمر الطفل من أهم فترات عمره، حيث إن فترة نمو الضمير لدى الطفل يتجلى فيها تشكيل شخصيته وتحديد معالم سلوكه الاجتماعي. ويعتمد تحديد شخصية الطفل على عدة عوامل، منها الاستعدادات الوراثية والقيم، والمعايير التي تسود الثقافة الفرعية التي ينتمي إليها، وأساليب الثواب والعقاب التي يتعرض لها في الأسرة، والتفاعل الذي يتم بينه وبين الأنداد، والنماذج السلوكية التي تعرض عليه من خلال الوسائل الإعلامية.
إلا أن أحداً، مع ذلك، لايستطيع أن ينكر أن الأسرة هي التي تقع في المكان الأول من بين هذه العوامل جميعاً، ففي هذه المرحلة من مراحل النمو يعتبر الأبوان والأقران هم العناصر، في المجتمع، الأشد تأثيراً في نمو الطفل اجتماعيا. حقا إنهم ليسوا العناصر الوحيدة المؤثرة، فهناك الأنداد والمعلمون والجيران ووسائل الإعلام، إلا أن أعضاء الأسرة هم الذين تكون صلتهم بالطفل في هذه المرحلة أكثر دواماً، وأثقل وزناً. كما أن التفاعل بينهم وبين الطفل يكون أشد كثافة وأطول زمناً. هذا إلى جانب العلاقة الانفعالية الاجتماعية التي تربط بين الطفل وأعضاء أسرته، مما يجعل منهم عناصر ذات دلالة خاصة في حياته النفسية.
ويتم تأثير الأسرة في تشكيل السلوك الاجتماعي للطفل، من خلال ما يمكن أن نسميه بعملية التنشئة الاجتماعية، فعن طريق هذه العملية يكتسب الطفل السلوك والعادات والعقائد والمعايير والدوافع الاجتماعية التي تقيمها أسرته والفئة الثقافية التي تنتمي إليها هذه الأسرة.
ولكن ما هي التنشئة الاجتماعية؟ وما هي أهم المجالات السلوكية التي يكون للتنشئة تأثير عليها في هذه المرحلة من مراحل النمو عند الطفل؟
التنشئة الاجتماعية هي العملية التي عن طريقها يسعى الآباء إلى إحلال عادات، ودوافع جديدة محل عادات ودوافع كان الطفل قد كونها بطريقة أولية.. أو بعبارة أخرى هي العملية التي يهدف الآباء من ورائها إلى جعل أبنائهم يكتسبون أساليب سلوكية، ودوافع وقيما، واتجاهات يرضى عنها المجتمع.
ولكن كيف يقوم الآباء بالفعل بهذه العملية؟ ما الذي (يعملونه) لكي ينشئوا أبناءهم اجتماعياً؟ وكيف يقومون بتدريبهم على إحداث ذلك التغيير؟.. إحدى الطرق التي يستخدمها الآباء في عملية التنشئة الاجتماعية لأطفالهم هي بالطبع طريقة الثواب والعقاب.
على أن الأطفال لاينتظرون حتى يوقع عليهم الجزاء (ثواباً أو عقاباً) لكي يكتسبوا ألواناً جديدة من السلوك. إن الأطفال يتعلمون أيضاً عن طريق الملاحظة والتقليد. ثم إنهم يتعلمون أيضا عن طريق التوحد مع الوالدين.
إذن، فالثواب والعقاب وملاحظة الآخرين وتقليدهم والتوحد مع الوالدين، تسهم جميعاً في التنشئة الاجتماعية للطفل.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال