رفع حجاب الأوهام عن حال المرأة العربية




كثيرا ما تحدثنا عن المرأة العربية، وقد دبجت فيها الكتب الكثيرة والمقالات المتعددة، ولكننا حتى الآن، كمجتمع عربي، لم نتوصل إلى تحديد دقيق لدور المرأة في المجتمع ومستقبل هذا الدور، نسمع عن المرأة كأم وكزوجة وأخت، ونقرأ فيها أشعار المديح لهذه الأدوار، ونفرح كثيرا إن قلنا إنها تقلدت المناصب العليا، فأصبحت وزيرة أو سفيرة أو مديرة، ولكن الدور الاجتماعي لها حتى الآن لم يتساو في الواقع المعيش مع الرجل، لا من حيث المكانة ولا من حيث الدور.

ونتحدث عن التقدم والعولمة والوسائل الإعلامية المخترقة للمجتمعات والقارات، واختزال العالم إلى قرية كونية، ولكننا لانرى دوراً جديداً للمرأة العربية في المجتمع، كشريك أو مكافئ لزميلها الرجل، لا من حيث الوضع القانوني ولا من حيث القبول الاجتماعي، ولا من حيث الدور التنموي، ودون الحديث عن الدور الشريك في التنمية، في شكليه القانوني والاجتماعي للمرأة في المجتمعات العربية فإن ما نتحدث عنه من تنمية وتطور لمجتمعاتنا هو حديث خرافة، أو على الأقل حديث مراوحة.
ولعلنا نستعيد النص الشهير للكاتب الجزائري مولود فرعون لبيان كيف تنظر المرأة العربية لنفسها نتيجة تراكب ثقافي أصبح فيه اللامنطقي في نظرها منطقياً، فهو يتكلم بحنان عن أخته الكبرى التي تجله وتحترمه، والتي تواسي نفسها عند وقوع أي ظلم عليها بهذه العبارة (أخي ليحفظ الله لي أخي، أخذ حصتي من اللحمة)، ترى كم زوجا أو أخا أكبر أو أصغر أو عائلة أو عشيرة أو حتى نظاما قانونيا قد أخذ حصته من لحم امرأة عربية مغلوبة على أمرها؟
لقد تخطى عدد العرب اليوم على أقل تقدير الـ 250 مليون نسمة، ولسنا بعيدين عن مطلع القرن القادم الذي يطل علينا، ومن المتوقع أن يصبح العرب في الربع الأول منه 450 مليون إنسان حسب أحد المصادر وتبعا لطريقة الحساب التي يعتمدها، ويمكن القول بسلامة إن ثلثي العرب اليوم يتشكلون من الشباب والإناث، وإذا قصرنا القول على العرب الذين يزيد عمرهم على العشرين عاما لزاد عدد النساء والشباب على ما يربو على ثلاثة أرباع العرب (البالغين) فبأي ميزان يمكن أن نزن الموقف السلبي من المرأة العربية وهي تشمل نصف هذا الثقل العددي على الأقل، في الوقت الذي نجد فيه الأمم الأخرى تقوم بسن التشريعات من أجل أن تقوم المرأة بحمل السلاح دفاعا عن وطنها وحقها في المواطنة غير المنقوصة؟ نصف العرب من النساء، ونصف العرب بما هن فيه يعانين من التهميش، فالمرأة العربية لاتقابل بما يناسب ثقلها الإنساني والحيوي في المجتمع، إنها هناك فقط لخدمة الرجل الأب أو الرجل الزوج حتى الرجل الابن. ولابأس في ذلك، لكن البؤس هو في اختزال المرأة، الموهوبة خاصة، للعب هذا الدور، وحرمانها من جني ثمار موهبتها كالرجل الموهوب. مؤشرات الحرمان كثيرة، إذ تعاني المرأة العربية من نقص حاد في فرص التعليم اليوم في معظم البلاد العربية، ومع المؤشرات المتصاعدة والدالة على ضيق إمكانات تمويل التعليم في البلاد العربية فإن المتوقع أن تكون أولى ضحايا هذا الضيق المالي هن النساء سواء في فرص التعليم أو فرص العمل المتاحة في المستقبل، أما إذا تحدثنا عن نوعية التعليم فإن السلبيات هنا كثيرة، ولكنها تتضاعف بالنسبة للمرأة لأنها تحرم من الخبرة المباشرة في الحياة، لذلك كثيراً ما نجد ـ وإن توافرت السبل المتساوية للرجل والمرأة في فرص التعليم ـ أن النتاج مختلف عند الاثنين، فالمرأة قاصرة، لأسباب اجتماعية، عن التطبيق العملي لما تعلمته في المدارس أو الجامعات.
ويبدو من ملاحظة ما نحن سائرون فيه أن الوضع تجاه المرأة العربية يزداد تعقيدا وعزلا بدلا من التطور المنطقي الذي يعني أن يزداد تبسيطا وعدلا.
إن قضية المرأة العربية تحتاج إلى إعمال لفكر حديث ومتطور ومبتكر، أكثر مما تحتاج إلى تكرار المقولات السابقة في التحرر والانعتاق، تحتاج إلى نظرة موضوعية تلائم بين المطلوب والممكن ولكن في سياق حضاري يأخذ بما أخذ به العالم من حولنا.
تجارب الأمم الأخرى
لقد تابعت المرأة خطى التطور في تاريخ المدنية الحديثة، ولازمت الرجل في جهاده الشاق نحو المدنية، فإن كان الرجل قد ضحى بالكثير من جهده العضلي والعقلي في بناء دعائم الحضارة التي نستمتع بها اليوم، والكشف عن بعض أسرار المجهول فيما حولنا، فقد ضحت المرأة بجهد نفسي فأعطت من روحها وعواطفها وانفعالاتها ما قد يساوي أو يفوق ما أنفقه الرجل من جهد. لقد عانت المرأة من عنف الرجل وظلمه أحقاباً طويلة، لو قدرناها لفاقت تضحيتها في هذا المجال تضحية الرجل، ولولا فضل المرأة في العمل الشاق، وتدبير شئون الأسرة، لتعذر على الرجل وحده أن يدب على الأرض ويكتشف أسرارها، ولقد عرفنا اليوم من تاريخ الجماعة الإنسانية الأولى أن الفلاحة واكتشاف النار، وهما سببان أصيلان للحضارة الإنسانية، قد اكتشفا من قبل المرأة.
الحديث عن حقوق للمرأة حديث جديد نسبيا في مجتمعات عديدة، فقد عانت المرأة في أوربا ولفترة طويلة من الحرمان والإهانة. حتى أولئك الكتاب الكبار الذين تكلموا عن الحرية ودافعوا عنها بضراوة قد نعجب إن عرفنا أنهم لم يعيروا المرأة شيئاً يذكر من شعاراتهم، ومما نقل عن جان جاك روسو الكاتب الذي مهدت كتاباته للثورة الفرنسية، أنه كتب يقول: (خلقت المرأة لتكون ملهاة للرجل)، هذا بعض التناقض الذي لم ينقطع، فحتى أولئك الذين قاموا منادين بعد الثورة الفرنسية بحق المرأة في الحرية على أساس أن الحرية قيمة إنسانية، وأن إنكار ذلك على المرأة فيه منافاة للعدل وانتهاك لفكرة المساواة، حيث إن الحرية ملك مشاع لأبناء آدم من ذكور وإناث، سرعان ما لحق بهم الكبت السريع والقمع العاجل الذي كان من نصيب هذه الأفكار الأولى التي أجهضت مع إجهاض مبادىء الثورة الفرنسية ذاتها حتى أنه نقل عن امرأة فرنسية أنها قالت لنابليون: (نريد حريتنا السياسية، فنحن متساوون مع الرجال أمام المقصلة).
وفي إنجلترا حاولت بعض النساء الدفاع عن بنات جلدتهن وحقوقهن في التعليم والعمل في القرن الثامن عشر، إلا أن الاستخفاف بهذه الدعوات واستهجانها كانا سمة العصر، ولم تظهر الدعوات في الغرب للتفكير في السماح للمرأة بحقوقها السياسية إلا في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، وقد بدأت الدعوات بعد أن نشر بايلي كتابه (التمثيل السياسي) سنة 1835، وهو من الكتب التي أحدثت في عصره انقلابا خطيرا في الفكر والسياسة، وقد أيد في هذا الكتاب نظرية حق المرأة في التصويت العام والمشاركة السياسية، وكان من رأيه أن النظام التمثيلي يقوم على مبدأين أساسيين، الأول: أن الغاية من الحكومة العمل على إسعاد المواطنين جميعهم، نساء ورجالا، لأن كلا الجنسين يتأثر باللذة والألم، والثاني: أن مباشرة الحقوق السياسية ينبغي أن تكون لخير جميع الفئات التي هي تحت كنف الحكومة المعنية. ولقد ناقش بايلي المقولات المعارضة لإعطاء المرأة حق التصويت. ومن الأمور الملاحظة أن بعض النساء البريطانيات وقتها قد عارضن بايلي في أطروحاته بل أصابه منهن هجوم مقذع، وبقي حق النساء السياسي في بريطانيا مهضوما لفترة متأخرة من القرن التاسع عشر، بل إن اختلاف الأجور والتفرقة في المعاملة خاصة الصناعية وكذلك حق التعليم المتساوي بقي في بعض مناطق أوربا حتى السنوات الأخيرة من القرن العشرين لم يحل، فقط بعد الوحدة الأوربية الاقتصادية في الستينيات وما تلتها من سنوات، استطاعت المرأة الأوربية أن تنال بعض الحقوق في التعامل العمالي والمساواة الاقتصادية، وبعضها جاء بأحكام من القضاء الأوربي.
إن قراءة تاريخ حرمان المرأة الأوربية من بعض حقوقها الإنسانية، وهو تاريخ طويل من العذاب، سوف يكشف لنا أن المرأة لم تحصل على حق الولاية في حضانة أولادها في إنجلترا مثلا في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر (1886)، ولم تحصل على حقها في ملكية العقار والمنقولات إلا بعد النصف الثاني من القرن الماضي (1857)، وكان من حق الرجل قبل ذلك التاريخ أن يهجر زوجته وأن يتركها بغير ما يقوتها أو يقيم أودها هي وأولادها منه، بل كان من حقه فوق ذلك أن يعود إليها بمحض اختياره ويستولي على كل ممتلكاتها بالغة ما بلغت قيمتها، وأن يبيع من ذلك ما يشاء بالثمن الذي يشاء، ثم يحق له بعد ذلك أن يهجرها. فتاريخ المساواة بين الرجل والمرأة في أوربا تاريخ مليء بالصراعات، ولم تأت القناعة العامة بحق المرأة كإنسانة إلا بعد الانقلاب الصناعي، الذي ظهرت بعده كتابات تقول إن المرأة جزء لايتجزأ من المجتمع، وليست متاعا يباع ويشترى.
ليست أزمة تشريع فقط
يعرف بعضنا دعوة قاسم أمين في تحرير المرأة العربية، كما يحفظ بعضنا أشعار أحمد شوقي في إعلاء مكانة المرأة العربية، ولكن بعضنا ينسى أن إسماعيل مظهر رئيس تحرير المقتطف قد أصدر في سنة 1949 كتابا خاصا أعطاه عنوانا طريفا هو (المرأة في عصر الديمقراطية، طريدة البغاة: بحث حر في تأييد حقوق المرأة) ناقش فيه الكاتب أقوال معاصريه من المتزمتين وضرب لهم أمثلة من التاريخ العربي الإسلامي. يقول مظهر في بدء النقاش: (يقولون إن قضية المرأة قضية محلولة، وإن الزمن القديم قد وضع لها القواعد وفصل الأصول وأتم الفروع، مؤتمين في ذلك بنظريات وأقوال أبدلها الزمن وناء عليها الدهر، فأصبحت مهملة فضفاضة بادية العورات، ولكنهم يحاولون ستر عورتها بالثرثرة الفارقة كقولهم إن المرأة للبيت، دون أن ينظروا ليروا ذلك الفارق البعيد والصدع الكبير الذي يفصل بين زماننا والزمان الذي راجت فيه مثل تلك الأقوال) ومع الأسف لم يأخذ هذا الكتاب المهم حقه في المراجعة والتأمل من قبل المدافعين عن حق المرأة العربية اليوم، وأكبر ظني أن هذا العيب ـ ترك ما كتب في السابق دون مراجعة ـ هو عيب أكاديمي عربي، فكثيرا ما تستشهد كتاباتنا في أي موضوع بشواهد من الكتب الأجنبية دون أن يبذل أي عناء لمراجعة ما قاله بعض مفكرينا، وقد بذلوا الجهد الجاد في بحث مشاكلنا وتقديم الحلول لها.
الحوار حول حقوق المرأة في المجتمع العربي سرعان ما يتحول تكرارا إلى حوار أخلاقي، خوفا على أخلاق المرأة من الفساد، هكذا يتصدى البعض للوقوف أمام الحقوق الطبيعية والإنسانية للمرأة العربية، في بعض مجتمعاتنا دخلت بعض الفئات في مقاومة شرسة ضد تعليم المرأة لأنها إن تعلمت ـ من وجهة نظرهم ـ وعرفت كيف تكتب، أمكن لها مراسلة الآخرين والاتصال بهم، هذه الحجة الساذجة من الخوف الوسواسي هي جزء من الخوف من التجديد، وقد سقطت هذه الحجة بمنطقنا اليوم، ونحن في عصر الفضائيات والهواتف الدولية، وحتى الإنترنت، ويبتسم بعض أبناء وبنات الجيل الجديد غير مصدق أن هذه الحجة كانت إحدى قلاع الدفاع التقليدي ضد تعليم المرأة.
أما الحجة الثانية التي لاتبعد عن الأولى خطلا فهي أن المرأة تتعرض إن عملت مع الرجل إلى خدش حيائها أو الإغواء من قبله، ونجد أن ملايين النساء يعملن اليوم جنبا إلى جنب مع الرجل في المكتب والمصنع والمدرسة ومع ذلك فإن الشطط قليل والذي لايخلو منه مجتمع مهما كانت القيود التي يفرضها حول نسائه، لقد حاول مناصر المرأة قاسم أمين بوعي ثاقب منذ أكثر من خمسين عاما أن يتبين المنطق المتحكم في عزل المرأة، وفرض أشكال من السلوك عليها كأساس للتفرقة بين الجنسين، وقد توصل إلى أن المرأة أقدر من الرجل على التحكم في ميولها الغريزية، لذلك فقد كتب يقول إن الفصل بين الجنسين هو لحماية الرجل وليس المرأة، يتساءل قاسم أمين عمن يخاف وعن مصدر الخوف في مثل هذه المجتمعات فيقول في نص لافت للنظر: (عجبا لم لم يؤمر الرجال بالتبرقع وستر وجوههم، إذا خافوا الفتنة عليهم؟ هل اعتبرت عزيمة الرجل أضعف من عزيمة المرأة؟ واعتبر الرجل أعجز من المرأة في ضبط نفسه والحكم على هواه؟
يسمح لنا هذا النص بالتذكير أن المرأة هي مصدر خوف، وهذا الخوف ليس في مجتمع بعينه بل في كل المجتمعات، وأن الاختلاف هو اختلاف في العصر فقط والظروف الاجتماعية.
والحياة الحديثة تجبر المجتمعات اليوم على التكيف معها، وهي حياة تبتعد كل يوم عن الكسل والدعة وتتطلب النشاط والمثابرة والمشاركة في مجالات التنمية المختلفة. ما يعوق المرأة العربية في المجتمع العربي اليوم ليس نقص التشريع فقط، فهناك بعض المجتمعات العربية قامت بهذا التشريع في إعطاء المرأة حقوقها المدنية، ومع أن بعض المجتمعات العربية مازالت تقاوم مثل هذه التشريعات الحديثة وتتحايل في تأخير أو حرمان المرأة من هذه التشريعات، إلا أن المشكلة الأهم هي أنه حتى في وجود التشريع فإن التطبيق مازالت أمامه عقبات اجتماعية، وهنا الخطورة الكامنة، فأن يكون هناك تشريع ولايكون هناك تنفيذ يعني أنه ليس هناك مجتمع دولة بالمعنى الحديث.
دراسة لافتة
"تعلمت من أيام الصبا الأولى، ومن هجائيات الحياة في العشيرة، أن للرجل الحول والطول وله الأمر والنهي، وله الهيمنة والسيطرة، وله وحده الحل والربط، أما المرأة فظل باهت من ظلاله المتعدد وخيال في الهاجرة، يمد يد الخضوع والتوسل لتنال الرضا منه"، ذلك مقطع من قصة نشرت في السنة الماضية كتبها رجل وكان عنوانها (يوميات امرأة عربية)، ونجد الكثير من عذاب المرأة العربية قد عبر عنه الرجل في قصصنا ورواياتنا وأفلامنا السينمائىة، ولعلنا نذكر فيما نذكر الفيلم الرائع الذي مثلته الفنانة القديرة فاتن حمامة والذي كان بعنوان (أريد حلا)، والذي قيل إنه كان أحد أسباب تغيير بعض التشريعات الخاصة بالمرأة في مصر.
على الرغم من اعترافنا العلمي بأن وضع المرأة العربية متباين الدرجات ـ كما أن شرائحها المختلفة في المجتمع الواحد متعددة مستويات الوعي ـ فإنه من المشاهد أن المرأة العربية بشكل عام لم تتقدم حتى اليوم لتقود معركة الحرية لبني جنسها. لا نعدم بالطبع أن هناك رائدات للعمل النسوي العربي ولكنهن قليلات إن أخذنا نسبة تمثيلهن في المجتمع، كما أن الفصل بين العمل النسائي والعمل الرجالي في الدعوة لتحرير المرأة العربية أضر بالدعوة وأفقدها صدقية كبيرة في توسيع قاعدة المتعاطفين معها والمدافعين عنها، وكثيرا ما يُنظر إلى توحد المرأة في شئون أمورها العامة على أنه عمل أنثوي بعيد عن ميدان اهتمام الرجال، لذلك تبقى قضايا المرأة العربية خارج مجالات الاهتمام العام.
ومع الاختلاف من دولة عربية إلى أخرى يمكن القول إن المرأة العربية غير موجودة في الهيكل الاجتماعي الفاعل سواء في القطاع الحكومي التشريعي أوالتنفيذي أوالقضائى على المستوى المحلي أو المركزي وفي مساهمة محدودة في القطاعات غير الحكومية. في هذا القطاع الأخير (الهيئات الأهلية) نجد أن بلدا مثل لبنان من المفروض أن مساهمة المرأة فيه قديمة نسبيا وجدت دراسة نشرتها أخيرا كلور ميغزل، المحامية اللبنانية والناشطة في العمل الأهلي النسوي، أن عدد المنتسبات إلى الأحزاب السياسية اللبنانية على كثرتها لايتجاوزن 8% من عدد المنتسبين من الرجال، كما أن المرأة يندر وجودها في الهيئات العليا للأحزاب حيث تتخذ القرارات، وأن عملها في هذه الأحزاب هو امتداد يفرضه السياق الاجتماعي والثقافي، فتكلف في معظم الأحيان بأمور اجتماعية وبأعمال السكرتارية، وأن عدداً كبيرا من هؤلاء المنتسبات إلى هذه الأحزاب انتسبن بسبب وجود أزواجهن في هذه الأحزاب، كما أن هذه الأحزاب لم تتبن القضايا الخاصة بالمرأة بشكل مباشر، ولم ترشح هذه الأحزاب أية واحدة منهن لكرسي الوزارة على كثرة ما رشح من الرجال، أما النساء العاملات المنتظمات في النقابات العمالية فيرجع انضمامهن إلى هذه النقابات إلى عوامل عديدة منها نوع العمل، والسن، والوضع العائلي، وتوصلت الدراسة اللبنانية في قطاع النقابات المهنية، إلى نتائج قريبة مما يحدث في حالة الأحزاب السياسية: عدد قليل من المنتسبات. لاوجود للنساء في المراكز القيادية، تصنف المرأة عملها النقابي بعد عملها المنزلي والمهني. ولاتتبنى النقابات المشاكل التي تعترض عمل المرأة.
وهكذا هي مشاركة المرأة في الجمعيات الأهلية المشتركة، لذلك نجد أن مساهمة المرأة في الجمعيات الأهلية مقصورة على الجمعيات النسوية، وهذا يقدم لنا دليلاً على الصعوبات التي تلاقيها المرأة اللبنانية للاندماج في مؤسسات المجتمع المدني، وهي امرأة عربية أخذت نسبيا حظها من التعليم والمشاركة الاجتماعية، وهو قسط إن قسناه بزميلاتها في بقية الدول العربية لوجدناه متقدما، ومن الملاحظ أن المتطوعات في العمل الأهلي النسوي معظمهن من السيدات المتقدمات في السن، ومن الطبقة الميسورة، والمستقرة في المدن، فهي بذلك نادراً ماتضم عناصر شابة أو تقوم بعمل مستديم، فكثير من أعمالها موسمي ومظهري في آن.
بعضهم يستثمر واقعهن
الخطاب العام للمستقبل هو الخطاب الديمقراطي، وتسعى المجتمعات العربية في السنوات الأخيرة من القرن الذي ينقضي ـ رسميا على الأقل ـ للحاق بهذا الخطاب ولو شكليا، وتقديم تطبيقات مختلفة له منها مساهمة المرأة في المجتمع كشريك، وبالتالي لايمكن لهذه المجتمعات أن تتجاهل نصف المجتمع وهي تدعي الديمقراطية وتحاول تطبيقها. لقد سألت أحد كبار المسئولين في برلمان عربي دخلت فيه المرأة مساهمة أخيرا، ماذا عن دورها داخل البرلمان؟ فأجاب وأحسبه صادقا: إن المرأة دورها محدود جدا لأن الظروف الاجتماعية لاتسمح لها بأكثر من ذلك. وتلك هي إحدى القضايا الخاصة بالمرأة العربية، لأنها إن لم تحصل بعد على اعتراف اجتماعي بدورها يبقى الاعتراف القانوني، مهما أخذ من صيغ، شكليا بحتا، وأياً كانت زاوية النظر التي نرى منها تطور المرأة العربية سواء من منظور المجتمع السياسي أو المجتمع المدني فإننا سوف نلاحظ أن هذا التطور هو كمي مظهري لم يؤد بعد إلى تغيرات نوعية جوهرية، فالمرأة العربية الحضرية التي شاركت في مجال العمل بقوة التشريع لم يؤد خروجها للعمل إلى تحررها ثقافيا واجتماعيا وخروجها من عقلية الحصار، فلاتزال الثقافة السائدة هي ثقافة السيطرة للرجل في مقابل الخنوع للمرأة، فهي عاجزة في بعض الطبقات الاجتماعية ـ مهما تعلمت ـ حتى عن استخدام حقها وحريتها في اختيار شريك حياتها أو نوع عملها ناهيك عن القدرة على سفرها منفردة.
وتتعدد التيارات الفكرية العربية تجاه الموقف من المرأة، وهو تعدد إن أحسنا الظن به من المفروض أن يقود إلى محصلة ما تفيد المرأة، إلا أن هذا التعدد لايزال متحصناً خلف متاريس أيديولوجية عالية الجرس. بعض هذه التيارات يسعى جاهدا للاستجابة للتغيرات التي طرأت على المجتمع والحصول على المزيد من الحقوق والمكاسب للمرأة، ولكن هذه المكاسب تحسب لما يضيف إلى رصيده السياسي لا بتقديم نظرة إنسانية وحديثة للمرأة كعضو في المجتمع، وبعضها يريد أن يستمر الحال كما هو، ويدافع عن الوضع القائم بدفوعات أخلاقية واجتماعية، إلا أن جميع التيارات الفكرية العربية تعي بوضوح أهمية تجنيد المرأة للدفاع عن الأطروحات السياسية التي تراها مناسبة، وقد يكون بعضها مضاداً لمصالح المرأة. كما تواجه هذه التيارات جميعا مشكلة (استيراد) القيم الأيديولوجية والثقافية في الحركة النسوية العربية، ولاتجد إلا في النادر من يدرس أزمة المرأة العربية من منطلق تراثي اجتماعي معاصر ومستنير، وليس بالضرورة أن ما خطته المرأة الغربية من خطوات تحررها يكون بالقطع مطابقا لما تحتاج المرأة العربية إلى أن تخطوه، على الأقل في الشكل إن لم يكن في الجوهر.
البعد الإنساني في التنمية
تؤكد أدبيات التنمية ـ من أي زاوية نظرت إليها ـ على أن أساس التنمية اليوم هو رأس المال الاجتماعي أي البشر، وتتفاوت التنظيمات الاجتماعية في العالم من حيث الشكل، فتعتبر اليابان مثلا مجتمعاً يتميز بطابع المجتمعات التي تعمل طبقا لمفهوم الجماعة، بينما تعتبر الولايات المتحدة على النقيض فهي اجتماعيا تعتبر رمزا للفردية والمبادرة. هذا الاختلاف يمكن الإشارة إلى عدد كبير من عناصره الأخرى، كالجمعيات التطوعية، ودور الدين في المجتمع، وشكل المؤسسات السياسية، ولكن تتشابه البلدان في نظرتها لرأس المال البشري الذي يعتبره الجميع محركاً للتنمية، وهذا الرأسمال لايقتصر على الرجل بل هو من الاثنين معاً الرجل والمرأة، بل إن دور المرأة يشكل الرافعة في التنمية الشاملة، فلا يخفى على عاقل أهمية وخطورة دور الأم في عملية التنشئة الاجتماعية، بسبب قربها النفسي والوجداني والجسماني من طفلها في السنين الأولى من عمره، ودلت الدراسات على أهمية التنشئة الاجتماعية في تشكيل السلوك الاجتماعي للفرد، وما صيحة شخصية تاريخية مثل هتلر عندما استغاث (بالأم الألمانية) إلا درجة من درجات تحفيز التشكيل الاجتماعي وإن كان سلبيا في تلك الحالة. وفي تاريخ الثقافات العالمية كما في تاريخ الثقافة العربية تأكيد لهذا الدور، فالقول المنسوب لشكسبير أن (الأم التي تهز المهد بيمينها تهز العالم بيسارها)، أو قول حافظ إبراهيم في البيت الشعري المشهور:
الأم مدرسة إن أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق
هو تحصيل حاصل لأهمية تعليم وتدريب وتحرير المرأة، ولكن مايحتاج إلى مناقشة هو كيفية الإعداد ومحتواه، هل هو إعداد لحمل تبعات مجتمع حديث ومتطور أو هو إعداد لحمل الماضي كما هو أو تزيينه أو إعادة إنتاجه؟ ثم كيف يمكن أن نحول القيم المبتغاة من داخل الأسرة على افتراض صلاح هذه القيم إلى المجتمع؟ إن من يدفع أكلاف غياب إجابات صحيحة على هذه التساؤلات هو أجيالنا القادمة، حيث إن استمراءنا العيش في فجوة العوالم المتفارقة يشوه مستقبلنا الذي نرجوه، فنحن لانستطيع أن ننوب عن أي كان في عملية الموت الحضاري، وقد قال أحد الحكماء (ليس سبب مشاكلنا ما لانعرف، إن سبب المشاكل هو ما نعرف ولم يحل بعد)
أحدث أقدم

نموذج الاتصال